يمكن القول إن الجنرال ميشال عون وضع عينه على رئاسة الجمهورية اللبنانية لحظة وضع الرئيس الأسبق للجمهورية أمين الجميل توقيعه على مرسوم تكليف الجنرال قائد الجيش تشكيل حكومة عسكرية موقتة. كان ذلك قبيل دقائق من نهاية ولاية الرئيس الجميل منتصف ليل 22- 23 أيلول (سبتمبر) 1988، ولم يكن مجلس النواب قد نجح في إنتخاب رئيس جمهورية جديد ضمن المهلة الدستورية المحددة بعشرة أيام قبل انتهاء الولاية، وذلك للحفاظ على هيبة الرئاسة واحترام أصول التسليم والتسلّم، بين الرئيس السابق والرئيس الجديد، في لحظات تعبّر عن مهابة إنتقال مقاليد الأمانة من يد الى يد، تأكيداً على صون الديموقراطية، من خلال القسم الذي يؤديه الرئيس الجديد أمام مجلس النواب. تلك أصول في الديموقراطية اللبنانية، على علاتها، ذهبت منذ إنتخاب الرئيس الراحل سليمان فرنجية في أيلول (سبتمبر) عام 1970، ولم تعد منذ أربعة عقود ونصف العقد. وقعت الخطيئة واستفحلت مع تشكيل حكومة عسكرية برئاسة الجنرال ميشال عون عام 1988. إذ كان تكليف قائد الجيش الجنرال عون آنذاك خطيئة، لأن حكومة مدنية كانت موجودة برئاسة الدكتور سليم الحص، وهو كان حافظ الأمانة على الدستور والمسؤولية بتجرّد ونزاهة وكفاية. لكن الرئيس الجميل شاء أن يقتدي بما فعله الرئيس الاستقلالي الأول الشيخ بشارة الخوري عندما اضطر الى تقديم استقالته تحت ضغط الثورة الشعبية المدنية السلمية التي دامت ثلاثة أيام من 15 الى 18 تموز (يوليو) 1952، فكان أن استدعى قائد الجيش الجنرال فؤاد شهاب وألزمه أدبياً ووطنياً بقبول رئاسة الحكومة منعاً للفراغ الدستوري في البلاد، وسلّمه الدستور فأقسم الجنرال شهاب عليه، ثم شكّل حكومة مدنية مصغرّة. وخلال خمسة أيام التأم مجلس النواب فانتخب كميل شمعون رئيساً للجمهورية، وكان الجنرال شهاب حاضراً الجلسة بصفته رئيساً للحكومة. وما إن أدّى الرئيس شمعون القسم الرئاسي على الدستور، حتى نهض الجنرال شهاب من مقعده وقدّم استقالة حكومته الى رئيس البلاد الجديد. أما لماذا كلّف الرئيس بشارة الخوري قائد الجيش تشكيل حكومة مدنية موقتة، فلأن رئيس الحكومة سامي الصلح كان قدّم استقالته تضامناً مع حركة الشعب في الشارع. ثم إنّ الأقطاب المسلمين السنّة حينذاك: صائب سلام، وعبدالله اليافي، وحسين العويني، اعتذروا، الواحد بعد الآخر، عن عدم قبول تشكيل حكومة، وذلك تضامناً مع إضراب الشعب في العاصمة ومراكز المحافظات. وثمّة سبب آخر كان لامتناع الرئيس بشارة الخوري عن تكليف شخصية مدنية سنيّة أخرى من خارج الصف الأول، وهو أنّه حاذر أن يتحدّى أقطاب هذا الصف من السنّة، وجميعهم من بيروت. ولعلّه أخذ في الاعتبار أن رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش هما من حصة الموارنة، ولذلك جمع مسؤوليات المنصبين في شخصية واحدة فتمثلّت الطائفتان المارونية والسنية في رئاسة واحدة مقابل حكومة مؤقتة من مختلف الطوائف الأخرى. تلك شكليات – أساسيات كانت تراعى بدقة في المسؤولية التقليدية المشتركة بين الرئاسة الأولى والرئاسة الثانية والرئاسة الثالثة في التركيبة اللبنانية. من هنا يدرك النواب اللبنانيون حالياً، وبينهم أساتذة في علم اشتراع القوانين والدساتير وأصول ممارستها وتطبيقها، أنهم وقعوا أخيراً في خطيئة الاستسلام لعملية تعطيل النصاب القانوني في الجلسة الأولى التي عقدت لانتخاب رئيس الجمهورية الجديد ضمن المهلة الدستورية. كان الدستور بين أيديهم ساعة طار النصاب داخل القاعة. وكان بإمكانهم الإعتصام في مقاعدهم، ولديهم النصوص التي تكرّس حقّهم بالانتخاب في دورة إقتراع ثانية، وكان العدد المطلوب حاضراً. سقطت تلك الفرصة فسقطت الدولة والبلاد والشعب في الفراغ، وأخليت الساحة للتسويات من خارج الدستور على حساب الديموقراطية لحساب الجنرال عون. ليست هي المرة الأولى التي يتعثّر فيها انتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية، لكنّها المرة الأولى التي يواجه فيها لبنان خطر بقائه «جمهورية» على علاّتها. وضاقت النّفس اللبنانية بالعودة كل مرّة الى «الحوار»، وهو الوسيلة الأرقى للمصارحة وصولاً الى التوافق، لكن «الحوار اللبناني» بات مملاً وعقيماً لكثرة ما تكرّر وما استهلك من وقت، وما كلّف اللبنانيين من صبر وخيبة أمل. فهناك «اتفاق الطائف» الذي مضى على عقده نحو ربع قرن بعد «حروب» داخلية متقطعة دامت نحو خمس عشرة سنة. هناك في مدينة «الطائف» السعودية ذات المناخ القريب من مناخ لبنان، لم يلتق النواب والوزراء والسياسيون اللبنانيون في عزلة. بل التقوا في إطار من الدعم العربي والدولي حولهم، وقد خرجوا بتلك الوثيقة التي لو طبقوها لكان لبنان تجاوز أزماته السابقة وبنى دولة غير هذه الدولة المتلاشية أمامهم وبين أيديهم الآن. «مجلس الشيوخ» ولعلّ أهم ما تجمّد من بنود تلك الوثيقة التاريخية هو بند انتخاب «مجلس الشيوخ» إلى جانب مجلس النواب. فلو كان للبنانيين الآن ذلك المجلس الذي يُفترض به أن يجمع من يمكن تسميتهم «حكماء» الطوائف والمذاهب، لما كان ممكناً لأي قيادة سياسية من أي طائفة أو مذهب، أن تمسك بعنق الجمهورية كما هي الحال الآن. لقد أخلي القصر الجمهوري من الرئيس، وصُودر مفتاح مجلس النواب، وحُوصرت رئاسة الحكومة الممثلة برجل وريث دور مؤتمن على صون الميثاق الوطني، وضاعت المسؤولية الفعلية والمعنوية للدولة، وحلّت مكانها نظرية أن القرار في غياب رئيس الجمهورية هو حق لمجلس الوزراء، شرط أن يكون بالإجماع. وهكذا، مع استمرار الفراغ الرئاسي، صار لكل وزير في الحكومة سلطة رئيس الجمهورية. لكن، الى متى يمكن لهذه الأعجوبة أن تستمر؟ حتى الآن لا يملك أي مرجع جواباً. وبدل أن تأخذ مجموعة «المراجع» الممثلة في هيئة الحوار قراراً بالتوجّه الى مجلس النواب لفتحه بدعوة الى عقد جلسة انتخابية تكمل عملية الاقتراع التي بدأتها في الجلسة الأولى وفقاً لأحكام الدستور الذي ينصّ على المبادئ التي تحكم عملية الاقتراع في الدورة الثانية، ذهبت الهيئة الى عناوين أخرى بعيداً من عقدة إنتخاب الرئيس. فإلى أين من هنا؟ سؤال من جملة أسئلة تتراكم، وكلّها تشير الى أن رئاسة الجمهورية باتت رهينة إتفاق على حل مسبق لم تتبلور معالمه بعد. وثمّة من يقول أن هناك إشارة قوية الى الجنرال عون الذي يعتبر نفسه صاحب «حق حصري» بمقعد رئاسة الجمهورية وقد سُلب منه، وكأنه «عرش رئاسي» هو وريثه الشرعي. ومع ذلك يُقال: فليكن الجنرال صاحب «العرش الرئاسي»، وله كتلة نيابية محترمة، فليتفضل مع نواب كتلته وسواهم من المؤيدين الى مجلس النواب مزوّدين بقرار الانتخاب، وعدم الانسحاب، لأي سبب أو عذر. لقد مرّت سنة وثمانية أشهر ولبنان عالق في فخ صوت واحد. ولم ينجح أساطين الفقه الدستوري في حل عقدة ذلك الصوت الواحد، مع أن الدستور اللبناني يتضمن حلاًّ لتلك العقدة. لكن «الاجتهاد» في بعض الحالات يمسح الدساتير والقوانين التي تعتمدها أرقى الدول في الديموقراطية. سنة وثمانية أشهر ولبنان مشلول بسلطته الاشتراعية، وفوضوي بسلطته التنفيذية، والشعب يعيش على أصداء ضجيج الشكوى من الفراغ والبطالة و«الزبالة»، وعلى وقع التحذير من توقف الخزينة عن دفع الرواتب والمستحقات للموظفين والمتقاعدين والمياومين، فيما النواب في عطلة مفتوحة وقد انتهى عقدهم مع الشعب، لكن مخصصاتهم وتعويضاتهم تنزل بانتظام في حساباتهم الإلكترونية بالملايين... كل المراحل السابقة التي اجتازها لبنان منذ العام 1975 كانت توصف بأنها صعبة أو مصيرية. وهذا الوصف ينطبق فعلاً على المرحلة الراهنة. ذلك أن العالم العربي، وكذلك المجتمع الدولي، منشغل بأزماته التي تبدأ بمكافحة الإرهاب والتكفير، وبعضها من صنعه، وهو يستثمرها ويوظفها، ويحاول أن يحاصرها عند حدود القارة الأوروبية. وإذا كان لبنان استطاع تجاوز أزماته السابقة بالأقل الممكن من الخسائر، وقد كانت فادحة، فإنه في هذه المرحلة متروك لأهله. لكن أهله منقسمون. وكيانهم الدستوري الوطني غير مستقر. قديماً كان وزير خارجية الولاياتالمتحدة الأميركية الأسبق هنري كيسنجر يردّد أنّ لبنان كيان سياسي مركّب، ويمكن لهذا الكيان أن ينهار إذا إختلت تركيبته، أو إذا قرّر أحد الفريقين، المسيحي أو الإسلامي، الانسحاب من وثيقة الاستقلال التي تعود الى العام 1943. لكن كيسنجر كان يستدرك فيقول: «إن لا خوف على اللبنانيين إذا سقط كيانهم، لأنهم أصحاب كفايات، ولديهم طموح واستعداد دائم للهجرة، والدليل على ذلك أنهم في عالم الاغتراب أكثر وأقوى مما هم في أرضهم». ومن غرائب التاريخ السياسي اللبناني الحديث أن نظرية كيسنجر هذه وردت خلال الأزمة التي أثارها الجنرال ميشال عون في 14 آذار (مارس) 1989 حين سيطر على القصر الجمهوري ووضعه تحت الحصار العسكري. فخلال أربعة أسابيع من ذلك العام بلغ عدد اللبنانيين الذين هربوا الى الخارج نحو مئتي ألف. وفي ذلك الزمن قيل: لو أن مطار بيروت استمر مفتوحاً وبقيت المنافذ البرية والبحرية آمنة لكان عدد المغادرين قارب نصف المليون. عود على بدء سبع وعشرون سنة مرّت من عمر لبنان. وها هي الأزمة تعود وتتحكّم بمصير الوطن المستقل من مرحلة الى مرحلة، والعنوان هو هو لا يتبدّل: الجنرال عون. ولقد بات اللبنانيون في حالة يأس وقلق وقنوط. وما يزيد حالهم سوءاً أن القيادات السياسية تعيش حياتها وكأنها في رحلة استجمام وتسلية. تشهد على ذلك جلسات الحوار التي تُعقد لملء الفراغ المطبّق على القصر الجمهوري وعلى مجلس النواب والسرايا. ثلاث مؤسسات عليا، ولا يعلى عليها إلا صوت الشعب، ولولا تلك العيون الساهرة على حياة اللبنانيين مدفوعة بحافز الواجب الوطني، ووفاء للقسم على حماية الأمن في الداخل وسلامة علم البلاد على الحدود. بل لولا ذلك الشعور الأخلاقي الذاتي الباقي في نفوس الغالبية الساحقة من الشعب اللبناني، لكانت الدولة «الأعجوبة» قد اندثرت منذ زمن بعيد. لماذا وصل لبنان الى هذه الحال؟... هناك ركام متراكم من الأسباب والأخطاء، ومن الغرائب والعجائب في مسيرة الدولة اللبنانية كمؤسسة عامة يُفترض أن تكون مدنية وديموقراطية قائمة على القانون والعدل والحرية والنزاهة والكفاية. وهذا جواب في العموميات. لكن الجواب الذي يزيح كل التفاصيل جانباً للوصول الى لب العقدة التي يتوقف عندها مستقبل لبنان حالياً، هي أن النائب الجنرال ميشال عون الذي خدم وطنه عسكرياً وخدمه سياسياً، يعتبر نفسه الأقوى والأكثر أهلية لأن يكون رئيساً للجمهورية، وهذا حق له أن يدعيه، وحقه أيضاً أن يرى نفسه الأفضل للمنصب، خصوصاً أن له تياره النيابي والشعبي، وله دوره في صنع القرار الدولي الرقم 1559 الذي عجّل بانسحاب الجيش السوري من لبنان بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. ثم أن الجنرال لديه كل الثقة بأنه سيكون الفائز بالرئاسة. ولا ينسى الجنرال تلك الهبّة الشعبية التي كانت تواكب صموده في الفياضية، وفي بعبدا، حيث كانت ساحة القصر الجمهوري تمتلئ بوفود تتقاطر إليها أفواجاً. ولا ينسى بالتأكيد النخوة النسائية التي كانت تتزاحم حول سلّة واسعة تُلقى فيها الأساور والعقود من الفضة والذهب تبرُّعاً لدعم موقف الجنرال في مواجهة النظام السوري. لكن الجنرال ينسى، أو يتناسى، أن للبنان دستوراً يجب صونه والمحافظة عليه كذخر مقدّس في كل ظرف كي يستطيع الوطن النهوض بعد كل سقطة يتعرّض لها، وخصوصاً السقطة الحالية التي يتخبّط فيها. وليس مطلوباً من الجنرال إلا أن يحتكم الى الدستور ويلتزم بأحكامه فيذهب الى مجلس النواب مع كتلته بكامل أعضائها، حاملين ورقة الجنرال على المكشوف.. هكذا يستحق الجنرال عون «وسام الصبر» الذي طال وعده أكثر من ربع قرن. ومن يدري. فقد يخرج الجنرال من جلسة الانتخاب وعلى صدره وشاح الأرز، فينقذ لبنان ويسترجع «العرش الرئاسي» الذي يطالب به على أنه «حقه». فلماذا لا ينعطف الجنرال نحو ساحة البرلمان بدل ساحات الاستعراضات الشعبية التي لا تنتج رئاسات، فيفوز بهدفه وبغايته المضنية التي طالت مسيرتها؟ كلام من هذا القبيل يُسمع في المجامع والمنتديات التي لها قول وفعل في تغليب رأي على رأي، وتحويل مسار من اتجاه الى اتجاه، حتى إذا حالف الجنرال الفوز كان فوزاً عظيماً. إذ يكون منزهاً من الشبهات، وبعيداً من وصمة الاحتلال السوري وتبعيته. صبيحة اليوم العشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي استيقظ اللبنانيون على نشيدهم الوطني معزوفاً عبر الهاتف الخليوي الذي لا تخلو منه يد لبنانية. كانت فكرة رائعة وهدية من وزير الاتصالات بطرس حرب بعيد الاستقلال. وقد عاش اللبنانيون يومين على وقع نشيدهم الوطني وهم يتساءلون إذا كان هذا النشيد لا يزال يبعث الشعور بالنشوة والواجب في نفوس الجميع، وفي الطليعة أقطاب ووزراء ونواب وأهل مسؤولية وقرار، في هذه المرحلة التي توصف بأنها مصيرية، وهي مصيرية فعلاً. وينطبق على أقطاب لبنانيين، مسيحيين ومسلمين، قول أم أموية مخاطبة ابنها، وكان آخر الملوك العرب على الأندلس: ابكوا مثل النساء (وطناً) لم تحافظوا عليه مثل الرجال. * كاتب وصحافي لبناني