لا يجدي تقليد النعام ودفن الرأس في الرمل عند اقتراب الخطر. نعم. هناك مسؤوليّة فعليّة حيال البشر في موضوع تعاطي الماريوانا، ليس مجدياً فيه أيضاً التعميم الفائض، والعمل بموجب التفكير الحدّي الذي يفصل الأشياء إلى أبيض وأسود متناسيّاً أن الحياة الفعليّة مملوءة بالألوان، بل أن التدرّج بين الأبيض الخالص والأسود التام هو واسع تماماً. ويقصد من ذلك أنّ موضوع الماريوانا في الغرب، لم يعد يحتمل التصنيف الجامد بين القبول التام والرفض القاطع. وفي أميركا، درجت ثقافة شعبية واسعة على ربط الماريوانا بالتمرّدات المعروفة لجيل الستينات من القرن العشرين. إذ درج ربط تدخين الماريوانا بجيل ثورة التحرّر الجنسي (صارت أميركا منذها، أشد محافظة حتى لو صعب تصديق ذلك على كثيرين)، والتمرّد على النظام، والمطالبة بحريّات لا يحدّها حتى الحلم نفسه (شعارات ك «كن واقعيّاً، أطلب المستحيل»، و «الحلم إلى السلطة»...)، وتجمّعات التفلّت الجسدي والنفسي المكثّفة في حدث ال «وود ستوك»، وتفجّرات موسيقى ال «بيتلز» و...القائمة طويلة ومعروفة. تحوّل في النظرة، ولكن... هناك تحوّل ضخم في النظرة العامة إلى الماريوانا. يصعب عدم ملاحظة ذلك الأمر، لكن مع استدراك واجب للقوّل أن تبدّل الصورة العامة عن المواد المغيّرة للكيف هو من الأمور المألوفة في تاريخها، ما يزيد من تعقيد التعامل معها على أسس علميّة خالصة. وحاضراً، يصح القول أنّه في الولاياتالمتحدة ومعظم دول الغرب، باتت الماريوانا تناقش خارج الآفاق الواسعة التي كانت ترافقها في ستينات القرن العشرين مثلاً. الأرجح أن أمر تلك المادة المغيّرة للكيف، يسير عبر نقاشات أشد تواضعاً، لكنها تصل إلى أعماق مهمّة. ليس عبثاً أن العام 2016 شهد إقرار ثماني ولايات أميركيّة قوانين تجيز استخدام الماريوانا طبيّاً وترفيهيّاً، مع بقاء حظر على بيعها خارج الأمكنة الحاصلة على إذن حكومي بذلك. ومع مطلع 2017، كان عدد الولايات التي منحت طابعاً مشروعاً نسبيّاً لحشيشة الكيف إلى 28، ما يفوق نصف الولايات المؤلّفة ل «بلاد العم سام». إنّها ليست حكراً على أميركا. تكفي متابعة الانتخابات الفرنسيّة للتثبّت من أنّها تجتاح النقاش العام في أوروبا الغربيّة، مع ملاحظة أن دول الحزام الشمالي من أوروبا تكاد تجمع على السماح بتلك المادة، والأهم أنها منخرطة في البحوث العلمية عن آثارها ومشتقاتها، إضافة إلى الأمدية الطبيّة لاستعمال تلك المواد في علاج أمراض جسديّة ونفسيّة متنوّعة. وفي الولايات الأميركيّة التي شرّعت استعمال الماريوانا، يصفها الأطباء لمعالجة الآلام المتّصلة بالأورام السرطانيّة وبعض الأمراض المستعصية، والصداع النصفي («مرض الشقيقة») المقاوم للأدوية التي تسيطر على الموجات الكهربائيّة في الدماغ، والمرض النفسي المعروف باسم «اضطراب ما بعد الشدّة النفسيّة» Post Traumatic Stress Disorder وغيرها. في المقابل، تبقى البحوث عن الماريوانا خاضعة للقيود التي تفرضها القوانين الفيديراليّة عن المخدّرات. وإزاء تلك المفارقة، يناشد عدد متزايد من العلماء الأميركيّون الحكومة إصدار قوانين ترفع القيود عن البحوث العلميّة التي تسعى لتحديد التأثيرات الفعليّة لمادة الماريوانا على الجهاز العصبي والتوازن النفسي، خصوصاً إذا استعملت في شكل متكرّر لمدّة طويلة. خفّة مفضيّة إلى قيود ثقيلة الأرجح أن السؤال الأشد إثارة للقلق في شأن الماريوانا يتصل بمدى كونها مادة قابلة لأحداث ظاهرة اعتماد Dependence لدى متعاطيها، مع ملاحظة أن مصطلح «تعوّد» Habituation قريب تماماً من معنى الاعتماد. ومع نفور علمي من استخدام مصطلح «إدمان» Addiction الذي يحمل وصمات متعدّدة، يميل العلماء إلى استعمال مصطلح «اعتماد» في الإشارة إلى ظهور تعوّد مرضي على الماريوانا. الأرجح أنّ مشكلة التعوّد على حشيشة الكيف معقّدة تماماً، بمعنى أنها تشمل مزيجاً من «تعوّدات» متنوّعة. لنحاول تفكيك الخيوط المتشابكة. أولاً، يشيع تناول الماريوانا عبر مزجها مع التبغ، خصوصاً السجائر والنرجيلة و «الجوزة» (وهي تنويع على النرجيلة). وبصورة واسعة، يعتبر الطب النفسي التبغ من المواد المحدثة لظاهرة تعوّد مرضي. ويعطي تدخين التبغ نموذجاً عن التداخل بين التعوّد النفسي ونظيره الجسدي. أليست خبرة شائعة أن يعود شخص إلى تدخين السجائر، بعد نجاحه في التخلّص من تلك العادة بمدة طويلة تصل إلى شهور بل سنوات؟ ألا يدل ذلك على أنّ التعوّد على تدخين التبغ يستند أساساً إلى المعطى النفسي أكثر من الجسدي (= وجود مادة النيكوتين في الجسم) بأضعاف مضاعفة؟ كيف تكون الحال عندما تتشابك تعوّد التبغ مع ما تحدثه الماريوانا من تأثيرات نفسيّة وعصبيّة، خصوصاً حال الاسترخاء والتحسّن في المزاج والإحساس بتضاؤل الآلام؟ ربما يرى البعض مبالغة في الكلام عن التبغ، لكن يكفي تذكر العقود الطويلة التي انصرمت في مكافحته (خصوصاً في الدول الغربيّة التي نجحت في خفض تعاطيه بشكل ملموس)، لتلمّس قوّة العادة في تدخين التبغ. في المقابل، يصح القول أن التبغ هو مادة «خفيفة» في التأثير عصبيّاً ونفسيّاً، بالمقارنة مع مواد كالكوكايين وحبوب الهلوسة والمورفين وما إليها. الأرجح أن «خفة» التأثير المباشر للتبغ هو جزء من قوّة العادة في تعاطيه! معلومات أساسية عن التعوّد المرضي على المواد الأرجح أن المصطلحات كثيرة، وتشمل «التعوّد المرضي»، و «إساءة استعمال المواد»، و «الاعتماد على المواد المغيّرة للكيف/ المزاج»، من دون أن ننسى مصطلح «الإدمان» المرفوض استعماله علميّاً وثقافيّاً وعمليّاً. ولعلها تشير إلى الشيء نفسه، ما يذكر بجملة شهيرة في الكتاب المقدّس: «مرتا، مرتا: تقولين أشياء كثيرة، والمقصود واحد»! ما الذي تسعى تلك المصطلحات إلى وصفه؟ لنتفق على استعمال مصطلح «ظاهرة الاعتماد» Dependence Syndrome، ما المقصود به في منظور الطب النفسي؟ ثمة إجماع علمي على أنها تشمل 7 أعراض أساسيّة يجدر تقصّيها بعناية قبل القول أن فرداً ما يعاني «ظاهرة اعتماد» على تعاطي مواد معيّنة. ومن المستطاع بسط الأعراض السبعة على النحو الآتي: 1- التوق Craving المستمر لتناول المادة. ربما لا تجري الاستجابة للتوق في كل مرّة، مع ملاحظة أنّ التجاوب يحصل عبر تناول المادة. ويرتبط التوق مع التكرار في التعاطي، وكذلك في العودة إلى تناول المادة بعد تركها. في بعض المقاربات العلاجيّة، يجري التركيز على مكافحة التوق للتناول عبر تكوين عادات بديلة عن التناول، كالمشي أو ممارسة التنفّس البطيء عند الإحساس بالتّوق لتناول المادة. 2- زيادة كمية المادة، مع تنامي القدرة على تحمل تناول كميّات أكبر فأكبر. ويسمّى ذلك «زيادة التعوّد» Increased Tolerance. في البداية، يقتصر تناول المادة المغيّرة للكيف على كميّة صغيرة، يحس المتعاطي بأنّها تعطي تأثيراً قويّاً وكافياً. 3- ظهور أعراض عند التوقّف عن التناول Withdrawal Symptoms (أعراض الانسحاب). لعل تلك الأعراض هي أبرز ما يلفت نظر المتعاطي والمحيطين به. وتشمل التوتر و «النرفزة» وآلام متنوّعة، وانخفاض التركيز، وتشتت الكلام وغيرها. 4- مداواة أعراض التوقّف بواسطة تناول المادة Taking for Relief. بقدر ما يبدو الأمر بديهيّاً، فإنه يتضمّن بعضاً من ألم الوقوع في أسر التعوّد. في البداية، يكون الانشراح والسرور مرافقاً للتناول، ثم يصبح الأمر مطلوباً لمجرد وقف الأعراض الانسحابيّة. يصبح التناول مقدمة لمزيد منه، وتنغلق دائرة مغلقة تأسر المتعاطي. 5- ضيق الروتين اليومي لتناول المواد Narrowing Reperitoire. في البداية، يكون التناول أمراً شبه احتفالي. يحدث لمناسبة معينة، ثم يتكرّر بعد تحضير للتناول كأنما هو خروج عن المألوف. وشيئاً فشيئاً، يضحي التناول عاديّاً، لا يقتضي تحضيراً ولا تهيئة أجواء، بل يكفي توافر المادة المرغوبة. 6- تحكّم الحصول على المادة بأولويّات الحياة اليوميّة للمريض Salience of Drug Seeking Behavior. إنّها أيضاً من الأعراض المعروفة عن الاعتماد على المواد. لا يعود المتعاطي مبالياً إلا بالحصول على المادة، بل بالمزيد منها. ويضحي في ذلك بأي شيء، بل يسلك أي طريق. 7- العودة السريعة إلى تناول كميات كبيرة بعد فترة الانقطاع. غالباً ما يلزم وقتاً طويلاً للوصول إلى تعاطي كميات كبيرة من المواد المغيّرة للكيف. وإذا انقطع المتعاطي لسبب أو آخر، ثم عاد إلى عاداته، يصل بسرعة إلى الكمية القصوى التي كان يتناولها قبل الانقطاع. خطورة الملاذ السهل ربما بدت الكلمات السابقة متنافرة، لكن المختصين يعرفون جيداً أن من يدخن السجائر، لا يحس مباشرة أن الأمر يتعلق بمادة مدمنة. ويزيد في ترسخ عادة تدخين التبغ أنها تضحي بسهولة جزءاً من العادات اليومية الشخصية والاجتماعية للأفراد. إنها جزء من اللقاء من «الشلة»، أو الملاذ السريع عند الإحساس ب «التعصيب» في العمل، والحل السهل للضغط اليومي في المواصلات وغيرها. ومع اندماج العادات اليومية المتكررة مع مادة قابلة لإحداث عادة، يصبح الاعتماد على السجائر أمراً معضلاً، بمعنى أن الإقلاع عن التدخين يضحي صعباً تماماً. ولعل ذلك يشرح جزئياً تلك «الحرب» التي لم تتوقف حتى الآن لمكافحة تدخين السجائر والتبغ عالميّاً، على رغم ضخامة الجهود المبذولة في ذلك. إذاً، يفيد درس التبغ بأن المادة الهينة التأثير تقدر على إحداث تعود مرضي فائق القوة. وعند الانتقال إلى الماريوانا، ينفع ذلك الدرس تماماً. ليست حشيشة الكيف بمثل قوة الأفيون والمورفين والكوكايين، لكن تأثيراتها «الخفيفة» هي بالضبط مدخل لقوة تجذرها كعادة في الحياة اليومية للفرد، ما يجعلها قادرة بسهولة على الانتقال إلى مرحلة إحداث تعود واعتماد مرضيين. بقول آخر، يتضمن تدخين حشيشة الكيف مع التبغ جمعاً ل «خفتين» قادرتين على التجذر في حياة الفرد، ما يجعل الاعتماد مضاعف القوة، فيضحي الخلاص أمراً شديد الصعوبة. ومن ناحية ثانية، تفسر «الخفة» تلك الظاهرة المعروفة عند المعتمدين على حشيشة الكيف، بأنهم يحسون بالقدرة على تركها «في أي وقت»، لكنها قدرة زائفة بل محض سراب. إذاً، الأرجح أن تدخين الماريوانا مدخل إلى ظاهرة مرضية من التعود والاعتماد، توجب في حالات كثيرة، تدخلاً طبياً لعلاجها.