يتطلّب الدخول إلى عالم الروائية النمسوية إلفريدي جيلينك تحضيراً نفسياً كبيراً. فأعمالها الروائية التي صدرت حديثاً باللغة الفرنسية في مجلد ضخم (دار «أكت سود») تقذفنا لدى قراءتها خارج قناعاتنا وعاداتنا ومراجعنا الأدبية، وتسعى، عبر استحضارها شخصياتٍ مألوفة ومقلقة في الوقت ذاته وعبورها حقباً مختلفة، إلى تفجير طبقة الجليد التي طُمر تحتها أمواتٌ لا يزالون عل قيد الحياة وأحياءٌ ملعونون وماضٍ تم إنكاره في شكلٍ تام. وفعلاً، تبدو جيلينك في رواياتها مجذّرة داخل الثقافة النمسوية التي تشكّل لها مصدر إزعاجٍ ووحيٍ ثابت. ولدى نيلها جائزة «نوبل عام 2004، تساءل كثيرون عن سبب كرهها العنيف لبلدها وحاول بعضهم تفسيره على خطأ انطلاقاً من تفاصيل حياتها الشخصية، في حين أنه يعود إلى المرض المُزمِن الذي تعاني منه النمسا، مرض النسيان، وإلى حاضر هذا البلد المبني على نفي ماضيه والعيش في سعادةٍ وهمية. ومثل كثيرين من الكتّاب النمسويين الذين ظهروا بعد الحرب العالمية الثانية، لم تقتنع جيلينك بفقدان الذاكرة هذا، لذلك نجدها تسعى في جميع رواياتها إلى تمزيق الستار الذي وضعه النمسويون على ماضيهم القريب، ليس فقط عبر استخدام هذه الكذبة التاريخية كموضوعٍ رئيس، كما في رواية «المنبوذون»، ولكن أيضاً من خلال الكتابة نفسها. فمن نصٍّ إلى آخر، شيّدت جيلينك صرحاً أدبياً معقّداً ومتعدِّد الأشكال. وهي كاتبة معاصرة لأن مادّتها الأولى هي الحاضر الذي تتفحّصه وتفككه ثم تعيد سكبه داخل أنواع أدبية وجمالية مختلفة: الرواية، النص المسرحي، البحث، الأوبرا والسيناريو السينمائي، ولأنها استطاعت قصف عنق اللغة كي تُظهر هذه الأخيرة ما تخفيه. فكل عمل من أعمالها الأدبية يُشكّل مختبراً دلالياً (sémantique) يتم داخله خلط وتفحُّص وإخراج مختلف الخطابات حول الرجل والمرأة، الأرض والوطن، الفن والطبيعة، الحرب الاقتصادية والأيديولوجية، وحول الصراع الدائر بين الطبقات الاجتماعية وبين الجنس اللطيف والجنس الخشن. قبل التطرّق إلى رواياتها، تجدر الإشارة إلى ثقافة جيلينك المتينة في ميدان الموسيقى الكلاسيكية. فحتى الثامنة عشرة من عمرها، أمضت الروائية معظم وقتها في المعهد الموسيقي في فيينا تتدرّب على البيانو والكمان والرقص. ولو أن والدتها دفعتها نحو الكتابة بدلاً من الموسيقى لكانت من دون شك موسيقية من الدرجة الأولى. فتوجّهها نحو الكتابة كان للهروب من خيارات والدتها لها وطغيانها. لكن هذا ما يفسّر الجانب الموسيقي في كتابتها، على المستوى الشكلي، وحضور الموسيقى كموضوع رئيس أو جانبي في جميع رواياتها. أما كتاباتها الأولى التي توزعت بين قصائد ونصوص نثرية فشكّلت فضاء حرّية يعجّ بالصور والأقوال والشخصيات المستعارة من وسائل الاتصال الجماهيرية، ويتجلى فيها وعيها الحاد الذي يميّز كل نصوصها اللاحقة، أي ذلك الشكل من الطغيان الأيديولوجي الذي يمرّ حتماً باللغة والذي تعود إلى الكاتب مهمة تفكيك كليشيهاته وتحطيم تلك الطبقة الجليدية التي يرزح تحتها تاريخ النمسا. ونشاهد بقوة آثار هذا التأمّل في درجات الخطاب داخل روايتها الأولى «العشيقات» التي يطغى عليها تشاؤمٍ ثقافي يناقض الموقف اليساري الطوباوي في بلدها، وهي رواية جدّية، معتمة، تقارب جيلينك فيها موضوع الحب والزواج والترقّي الاجتماعي كنوعٍ من القرعة (loterie) التي تقود حتماً إلى الفشل. إذ نتعرّف على شابتين تراهنان على الزواج لتحسين ظروف حياتهما وتخسران كل شيء لاستعانتهما بالنصائح والكليشيهات المسيّرة داخل الروايات المصوّرة الشعبية. وتعود شهرة جيلينك إلى فيلم مايكل هانيكي، «عازفة البيانو» (2001)، المبني على روايتها الثالثة التي تحمل العنوان نفسه. لكن هذا الفيلم حصر عبقرية الروائية بدورٍ واحد: السرد القائم على السيرة الذاتية، إذ يروي قصة أستاذة بيانو سجينة طموحات أمّها لها وسجينة استيهامات يصعب البوح بها، تنتقم من تلاميذها في المعهد الموسيقي في فيينا بسبب فشلها المهني، بينما تتميّز الرواية بأبعادٍ كثيرة أخرى، كإظهارها وهم السمو بالغرائز والارتقاء بالنفس بواسطة التربية الفنية، ووهم نُبل العواطف والثقافة، وحقيقة افتراس الفن من أولئك الذين يقتاتون منه. أما روايتها الثانية «المنبوذون» فاستوحتها من جريمة عائلية حصلت في الستينات وتلقي الضوء فيها على حاضر القتلة النازيين في بلدها الذين تمت تبرئتهم من ماضيهم المخيف والنتائج المأسوية لهذه التبرئة على أولادهم وزوجاتهم، كالتوأمان المراهقان راينر وآنّا اللذان يمارسان عنفاً مجانياً مع رفاقهما ضد أبرياءٍ، ووالدهما ذو الماضي النازي الذي يمارس وحشيته وانحرافه الجنسي على زوجته. وكما في جميع رواياتها، لا تسلم الأم من نقد جيلينك. فحين لا تكون طاغية أو قاتلة، نجدها ضحية راضية بالسلوك الفاشي لزوجها، كما في هذه الرواية التي يموت فيها كثيرون ببطءٍ أو غرقاً أو بضربة فأسٍ أو برصاصةٍ في الرأس. لكن رواية «لوست» هي بلا شك الرواية التي ذهبت فيها جيلينك إلى أبعد حدود في فضح استمرار الفاشية بوسائل أخرى، داخل البنيتين العائلية والزوجية. والعنف الذي قوبلت به هذه الرواية في ألمانيا والنمسا لدى صدورها هو بحجم عنف نصّها الرائع. لكن فظاعة الماضي الذي تسقطه الروائية على الجسد والجنس والطبيعة والنواة العائلية يتجاوز بكثير حدود ما حصل ويحصل في النمسا ليبلغ جوهر الكائنات والأشياء. وتروي جيلينك في هذه الرواية قصة زوجين يلتزم كل واحد منهما الموقع المحدَّد له سلفاً من قبل المجتمع. وإذ تشكّل هذه الرواية شهادة دقيقة على استحالة كتابة اللذة الجنسية من وجهة نظر نسائية، إلا أنها أيضاً نصٌّ سياسي بامتياز وخطابٌ جريء حول الروابط بين الحضارة المسيحية وميتافيزيقيا الحب والجنس، يتم فيه تعرية تورُّط المجتمع في المسألة الجنسية. فالزوج هو مدير مصنع ورق وطاغية يحظى بمكانٍ محجوز له داخل الكنيسة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الرجال الآخرين في الرواية الذين يتحوّل جسد المرأة على أيديهم إلى لحمٍ قابلٍ للاستهلاك في شكلٍ عادي. والمثير في هذا النص هو حضور نحو 60 قصيدة لهولدرلن فيه، تارةً كما هي وتارةً أخرى في شكلٍ محوَّر أو بطريقةٍ تُفرغ القصيدة من محتواها. وإذ لا مجال هنا للتوقف عند باقي النصوص التي تضمنها المجلّد المذكور، نشير إلى أن ما يميّز جيلينك عن سائر الكتّاب المعاصرين لها هو عملها على اللغة، أو بالأحرى ضدها. فنقد اللغة لديها ليس مجرّد تعبيرٍ عن أسفها لعدم قدرة اللغة على التعبير عن مضامين أصلية وفريدة نظراً إلى فسادها من جرّاء الكلام السائد، ولا مجرّد تعبير عن حزنها لضياع القيَم أو إفسادها، بل هي عملٌ عنيف يقوم على تحطيم الصور المفبركة سلفاً والقوالب المُعدّة للتفكير إذ ينساب كل واحد منا داخلها من دون إدراك، وبالتالي على إسماعنا الأصوات التي تتكلّم معنا حين نتكلّم، وعلى إجبار اللغة على التعرّي كي تظهر الميكانيكيات التي تتحكّم بنا، وهي كثيرة وتحدِّدنا من الخارج ومن الداخل. باختصار، تعلّمنا جيلينك الحذر من اللغة، خصوصاً حين تبدو لنا طبيعية...