تعمّد الفنان التشكيلي السوداني أمادو ألفادني أن يغطي اللون الأسود العاج على خلاف لونه الأصلي «الأبيض» خلال معرضه البصري الأخير «العاج الأسود» وسط القاهرة، بما يتّسق مع هدف المعرض في تصوير معاناة الرقيق من أصحاب البشرة السمراء، خلال رحلات نقل أنياب الأفيال من أرضهم السمراء إلى أوروبا، لتقحمهم الأخيرة في حروبها وهم لا ناقة لهم فيها ولا جمل. في قاعة صغيرة لا تتجاوز مساحتها أمتاراً عدة، ثبّت ألفادني خمسة أنياب ضخمة مختلفة الاتجاهات، تشكل معاً محتويات معرض الفن البصري الذي يعد أحد اتجاهات فنون ما بعد الحداثة «التجهيز في الفراغ». العاج الذي رمز به الفنان التشكيلي إلى المحاربين الأفارقة لا يقف صامتاً، إذ زوده بتقنيات صوتية يبث من خلالها تسجيل روائي لقصة أحد هؤلاء المسترقين من أبناء القبائل الجنوبية في القارة السمراء يدعى علي الجيفون، استطاع تجسيد الحالة المأسوية بصورة تنتقل مباشرة إلى رواد المعرض «أصوات أقدامهم تخترق الظلام الدامس، الصغار مختبئون داخل حفرة صغيرة دافنين رؤوسهم فى بطونهم حتى لا تراهم الضباع، الضباع بشر يتحولون ليلاً إلى وحوش يخطفون الأطفال ويذهبون بهم إلى أرض القيزان...». يوثق المعرض قصة «520 جندياً عايشوا الظروف ذاتها مع الجيفون ممن انضموا عنوة إلى الجنود الفرنسيين في الحرب ضد المكسيك عام 1864، إذ تتناول القصة رحلتهم من السودان إلى المكسيك بينما كانوا لا يزالون أطفالاً». ويضيف ألفاندي: «كان العاج الأبيض يختلط بعرق ودماء المسترقين السود. ويسعى المعرض إلى أرشفة تلك الفترة عبر تقديم رؤية فنية للقضية معتمداً على ما ذكر عنها من معلومات، هنا مثلاً اعتمدت على مقابلة قديمة لجيفون تعود إلى عام 1902 مع المجلة الأميركية «كولن هير ماغازين»، حين كان يبلغ تسعين عاماً، راوياً وقائع محاربته مع جيوش بلدان عدة «فرنسا، بريطانيا، تركيا، مصر، السودان»، إضافة إلى ما ذكر في كتاب صدر عام 1936 بعنوان بطولات الأورطة السودانية المصرية في المكسيك لعمر طوسون. تطورت فكرة المعرض من الاتجاه إلى تدشين متحف تأريخي لتلك الوقائع إلى الشكل الحالي. وعنه يقول الفنان التشكيلي: «فكرت في طريقة أتمكن من خلالها إقحام زوار المعرض في الحالة، فكان الاتجاه إلى الأسلوب القصصي وبث الصوت عبر العاج بما يحفز على إعمال خيال الزائرين في ظل الأجواء المحفزة على ذلك والقصة المؤثرة». يعود الصوت عبر العاج: «كنتُ أسمع ضحاكتهم وغنائهم؛ فأغمض عينيّ وأكتم بكائي حتى لا أراهم حين يتحولون إلى ضباع، باغتني أحدهم وحملني بين أسنانه، ثم سمعتُ صراخ الآخرين «لقد تمكَّنت منا الضباع». غسلونا من رائحة خوفنا، ثم ذهبوا بنا إلى السوق، أوقفونا إلى جانب العاج، جاء بعض الجلابة (تجار الرقيق) في زيهم الأبيض. الشمس حاميةً نستظل منها بأنياب العاج، التي نحملها على رؤوسنا. مسكينة كل تلك الأفيال التي قتلوها حتى يحصلوا على كل هذا العاج». ثم ينتقل المعرض إلى تجسيد الرحلة الطويلة: تحت الشمس وثقل العاج الذي كنت أسمع بكاءه في ذلك الصمت الذي نسير فيه، ولم يكن يقطعه سوى غناء الجلابة حول النار في المساء حين يحتسون العرق، اقتربنا من النيل صرنا نشم رائحته، كانت الأشجار على الضفاف أقل كثافة وأكثر تنظيماً». لامس الفنان التشكيلي خلال معرضه القضايا التاريخية والإشكاليات الإنسانية، فنجده ينتقد القوة الإمبريالية حينما استنطق الأنياب «هناك نوعان من الضباع بشري وحيواني» على لسان الجيفون وأن النوع الأول هم من ساقوه إلى مستقبله الغامض داخل جيوش الدول العظمى في تلك الفترة الزمنية»، وتنتهى رحلة زوار المعرض مع الصوت المنسوب إلى المحارب السوداني خارجاً من العاج الأسود: «افتقدتُ العاج الذي كنت أحمله، فقد كان يصغي إليَّ طوال الرحلة».