أن يقف شعراء العراق في كنيسة ثكلى بمؤمنيها. أن يأتوا ليرفعوا قصائدهم صلاةً لأجل الحياة ورحمة على الأحياء قبل الشهداء، أن يصرخوا «الله أكبر»، لا على طريقة انتحاري مُضلّل يظنّ قتل الأبرياء أسرع الطرق الى الجنة، بعد أن غسل دماغه «دعاة الجحيم» بكل ما يخالف جوهر الشريعة الإسلامية السمحاء. أن يحاول الحبر بلسمة بعض الأوجاع وتضميد بعض الجراح، ويغدو نوعاً من المناجاة في محراب الدم والدمع وحرقة القلب على من قُتلوا بغير ذنب أو جريرة. أن يحاول الشعرُ إضاءة بعض البصيص في نفق مُظلم مسطوم، مُوقداً نجمة حب وحنان وسط نيران البُغض والكراهية وضغائن الجهل والتخلّف والعصبيات القاتلة. أن يحمل الشعراء قصائدهم الى كنيسة في عزّ الفجيعة الطائفية والمذهبية التي يراد لها القضاء على البقيّة الباقية من رمق العرب الذين لم يمر في تاريخهم الحديث ما هو أمّر وأسوأ من واقع الحال الراهن حيث ينقسمون شيعاً وأحزاباً وفرقاً، ويتنابذون كالأعداء، فيما معظم أمم الأرض التي يجمعها أقل بكثير مما يجمع العرب، تبحث عن عوامل وحدتها ومكامن قوّتها كي تحجز لنفسها مقعداً الى طاولة العصر وموقعاً في مسيرة التقدّم والعمران. أن ينخرط الشعر في المعركة لأجل الإنسان وإعلاءً لقيمته الإنسانية في معزل عن انتماءاته الدينية والعرقية والاجتماعية والحزبية، فهذا جزء عضوي من كينونة الشعر نفسه إذ لا يمكن للشاعر أن يكون شاعراً ما لم يكن في صف الضحايا والمضطهدين والمظلومين، ولا يمكن للشعر أن يصير حقاً شعراً إلا إذا كان ضميراً للحق والحب والحرية والخير والجمال. لا يملك أنقياء العراق اليوم من مبدعي الفن والأدب الذين لم ينخرطوا في أتون الحقد الطائفي البغيض ولا في تعميم خطاب الشرذمة والانقسام، لا يملكون سوى حبرهم الحي النضر ينتصرون به للدم المُراق ظلماً وعدواناً، وكلمتهم الحرة العارية يُواجهون بها الباطل المظلم الظالم. والحق يُقال أن عراقاً بلا تعدده وتنوعه وتلاوينه المختلفة هو عراق مُراق على اسفلت «عالم» متوحش لا هم له ولا غاية سوى مصالحه التي لا ترى في شعوبنا بشراً بل مجرّد أعداد تتم التضحية بها على مذبح الديموقراطيات الكاذبة، ولا في بلداننا أوطاناً بل مجرّد منابع خير وثروات تُسرق باسم الحرية والديموقراطية. يبدو السعي الدؤوب لتفريغ الشرق العربي من مسيحييه جزءاً من خطة جهنمية تدفع نحو إغراق المنطقة في أتون جهنم مذهبية لا تبقي ولا تذر، إذ لا يغفل عاقل عن الدور النهضوي الكبير الذي لعبه المشرقيون المسيحيون في بلادهم، ولا عن مساهماتهم التنويرية في كثير من مناحي الحياة، لذا فان دفعهم الى مزيد من الهجرات القسرية ما هو إلا بهدف المزيد من ظلام الغرائز الفتنوية وعتمة الأحادية المُنشَطرة على نفسها مثل ذرّة تدميرية هائلة. ليرتفع نشيد الشعر والحبر، ليعلو صوت الشعراء حباً وحرية، وليتوقف هذا النشيج الوطني الهادر مرّة باسم الدين ومرّات باسم الدنيا وكلاهما براء مما يُرتكب باسمهما، لا فقط لأجل العراق، بل لأجلنا جميعاً من الماء الى الماء، فهل يفلح الحبر في حفظ دمائنا وماء وجوهنا؟ قديماً كان حسني البرزان (الفنان الراحل نهاد قلعي) يقول في برنامج «صح النوم» مع شريكه غوار الطوشه (الفنان دريد لحّام): لنعرف ماذا يجري في إيطاليا علينا أن نعرف ما الذي يجري في البرازيل»... لو عاش حتى هذه الأيام المزرية لقال: ما يحدث في العراق قد يحدث أيضاً في أي بلد عربي... حَذار.