تتوازى روايتا «البطلتين» السوريتين سليمى وسلمى - وتتقاطعان- في رواية الكاتبة السورية ديمة ونوس «الخائفون» (دار الآداب) لتلتقيا في الختام وكأنهما الصوت والصدى او الوجه والمرآة، على رغم ان الراوية الأولى (سليمى ) تحجم عن لقاء الراوية الثانية (سلمى) بعدما تواعدت معها، فتنظر اليها جالسة تنتظرها في المقهى بينما هي واقفة على الرصيف الآخر في ساحة ساسين – الأشرفية في حال من التردد والحيرة. كانت سليمى جاءت من دمشق الى بيروت باحثة عن «قرينتها» الروائية سلمى التي كانت غادرت الى بيروت هاربة من الجحيم، وعندما يحين وقت اللقاء تنسحب مكتفية برؤيتها من بعد. لم تشأ ان تتعرف الى هذه البطلة الثانية، قرينتها وغريمتها في آن واحد والتي اوكل اليها الكاتب نسيم مهمة الراوية ليكتب على لسانها ومن خلال عينها نصه الروائي الجديد الذي اودعه لدى سليمى من دون ان ينهيه تاركاً لها القرار في انهائه. اما نسيم نفسه الذي يمكن اعتباره «بطلاً» ايضاً والذي يكتب باسم سلمى مرتدياً قناعها، فيظل في صفة الغائب الذي تروي عنه سليمى في روايتها هي. وهو شخصية بارزة في الرواية وفق ما تصوره سليمى. قد تبدو لعبة ديمة ونوس معقدة او مركبة لكنها لعبة سردية ذكية تتماهى فيها صورة الراويتين والكاتب المفترض (وسيم) حتى لتصبح اشبه بمتاهة مفتوحة وغير مشوشة، يكتشف القارئ فيها متعة التيه والاكتشاف. هذه الحالة المتاهية يصنعها الالتباس الذي يجمع اولاً بين الراويتين ويفصل بينهما، ثم يجمع بينهما وبين الكاتب الذي اختلق شخصية سلمى والذي تروي سليمى قصته وقصة الحب والخوف والاضطراب النفسي التي جمعت بينهما. أوراق وسيم سلم الكاتب وسيم أوراقه التي لم ينهها والتي تدعى بطلتها - راويتها سلمى، الى حبيبته الكاتبة (الرسامة ايضاً) سليمى قبل هربه الى أمانيا عبر تركيا. وعندما تقرأها تكتشف في سلمى صورة عنها ولو غير مطابقة تماماً. تكتشف فيها ملامح قرينة لها تعاني ما تعانيه وتحيا حزنها ووحدتها والأهمّ خوفها وكوابيسها. وتجد في سلمى امرأة مصنوعة من الخوف مثلها ومثل باسم كما تقول. وتسميها «المجهولة الاسم» قبل ان تعرف اسمها في الصفحات الأخيرة من الرواية والذي تبوح لها به سكرتيرة الطبيب النفساني كميل الذي كانت تلجأ هي اليه وكذلك سلمى ووسيم نفسه. وهي اصلاً تعرفت الى وسيم في عيادة هذا الطبيب. وكانت سليمى كلما قرأت المخطوط يساورها شك في ان وسيم سرق قصتها وفي انه يكتب عنها، لكنها لم تفاتحه بالأمر، فهي لا تملك دليلاً ملموساً على ان الفتاة التي لم يذكر اسمها بل شاء ان يتركها مجهولة الاسم هي نفسها اي سليمى. وتسأل: «لماذا تركها بلا اسم؟ألأنه اراد الكتابة عني؟». ثم تقول في ما يشبه التأكيد: «لكنها أنا»، على رغم ادراكها في الحين نفسه انها تنتمي الى عائلة اخرى و«طائفة» اخرى. انها تشعر ايضاً ان روحها وروح قرينتها «تسبحان في الفلك ذاته». وخلال قراءتها الأوراق التي ترافق كتابتها روايتها في لعبة تقطيع ذكية، تسأل نفسها: «أيعقل انني اضعت نفسي في حكاية تلك الصبية المجهولة الاسم؟ «. وتضيف: «لم أعد أميز بين ما أعرفه أنا وما تعرفه هي. اختلطت حكاياتنا». بل انها، خلال قراءتها رواية قرينتها غير المكتملة، تواصل السرد استطراداً من حيث تنتهي سلمى او تعلق على جملتها الأخيرة نفسها، كأن تقول مثلاً: «هاهي الدموع تجف في عين بطلته...»، او: «ماذا ترك لي نسيم غير الكتب؟». وعندما تتحدث سلمى عن محاولة انتحارها تستهل سليمى المقطع التالي من روايتها هي، معلقة على محاولة الانتحار هذه قائلة: «لو أنها تنتحر. رحت أتمنى انتحارها». فعلاً تجمع بين البطلتين القرينتين - الغريمتين وقائع عدة: حبوب الكزانكس المضادة للاكتئاب، الطبيب النفساني كميل وعيادته، الحالة الكابوسية، التربية البعثية في المدرسة... ثم «الخوف من الخوف» الذي قال به وسيم، وهذه المقولة هي بمثابة لقيا تُسجل للكاتبة ديمة ونوس. فهذا «الخوف من الخوف» لا يمكن ان يوجد إلا في بلاد تحكمها دكتاتورية البعث ونظام الاستخبارات والأجهزة والشبيحة ذوو اللهجة الخاصة التي تعلق الكاتبة عليها... عندما تسأل سليمى وسيم بعد تعرفها اليه في عيادة الطب النفساني عن سبب نشر رواياته باسم مستعار وإن كان الخوف من الملاحقة هو السبب يجيبها للفور:«خوفاً من الخوف». وتكتشف سليمى انها تعيش تحت وقع هذه العبارة وان كان وسيم هو قائلها. وتمعن في تفسيرها او توضيحها قائلة: «نسيم يخاف من الخوف. لو نشر رواياته باسمه سيخاف من ان يخاف. ليس خوفاً فقط من الاعتقال مثلاً او الملاحقة او المساءلة او المنع من السفر، وإنما خوفاً يسبق ذلك الخوف». هذا الخوف الذي عاشه نسيم عاشته ايضاً سليمى وسلمى والشعب السوري المقموع والمعترض او المحتج ولو سلمياً وبصمت. تقول سليمى:»الخوف يكبر معنا، الخوف يرافقنا طوال العمر». والدها الطبيب خبر الخوف في حماة قبل المجزرة الشهيرة التي ارتكبها النظام وإبانها وبعدها، وكذلك امها التي استحالت بعد خطف ابنها فؤاد المشارك في تظاهرات الاحتجاج واختفائه «كومة صغيرة مرمية على الكنبة»، بين يديها كتاب توقفت في قراءته عند الصفحة 24. وتعتقد سليمى ان اخاها مات خوفاً وليس تحت التعذيب. هو الخوف الذي يجعلها تقول: «هناك من يقبّل قدمي ضابط كل لحظة في اليوم في سورية». أما سلمى فلا تنفك تعترف أنها كثيراً ما أحست بأنها تختنق وتصارع الخوف والقلق ونوبات الهلع. إنه الخوف، يقول لها الطبيب النفساني كميل. لكن سلمى التي حاولت الانتحار مرة وكادت ترمي بنفسها من الشرفة بات الخوف وراءها بعدما فقد معناه. وربما موت ابيها الذي تحبه وتعده الرجل الوحيد في حياتها جعلها تتخطى هذا الخوف:» لا داعي للخوف، ما علي سوى الانتحار فارتاح». قناع السيرة الذاتية اختبأت ديمة ونوس خلف قناع سلمى، بطلة الكاتب وسيم لتكتب بقلمه مقاطع من سيرتها الذاتية ولا سيما طفولتها، مسترجعة صورة والدها الذي لمحت إليه ولم تسمّه، والذي فارقها في الرابعة عشرة من عمرها. وإن عمدت الى سرد بعض ملامح عائلة ابيها في القرية التي لم تسمها ايضاً فهي قصدت فضح مشكلات تلك العائلة المضطربة وتناقضاتها وانقسام افرادها بين انتماء مذهبي وبعثي وتحرر من الطائفة ومناهضة للحزب الحاكم. ولم يكن ولوجها عالم الطفولة والقرية، قرية ابيها، الا مدخلاً للكتابة عن ابيها نفسه. وابدعت سلمى او ديمة بالأحرى في كتابة صفحات عن الأب الكاتب والمثقف الذي كانت مولعة به وكان الرجل الوحيد في حياتها والذي كما تقول، لم يترك لها عائلة قبل رحيله ف «كان هو العائلة بأكملها». وتضيف: «ترك لي امه وبيت طفولته والكثير الكثير من الكتب والأوراق ودفاتر مذكرات وصوراً وأقلاماً». حتى البيت العائلي في دمشق لم يكن في نظر الفتاة سوى غرفة نوم والدها في ايام مرضه. بل ان البيت كان يعني لها الوحشة والمرض، الأم في المطبخ تحضر دواء من اعشاب طبية لتزيل عن وجهه ملامح الشحوب وترفع من قدرة المناعة في جسده، اما الأب فهو ممدد على سريره يقرأ ويكتب لساعات او يستمع في لحظات الضجر الى الراديو او الموسيقى الكلاسيكية او فيروز وجاك بريل ... وفي مثل هذا الجو الكئيب تصبح الابنة بمثابة ظل لأبيها، «ظل لصيق» وكأنها لم تفعل في طفولتها سوى الالتصاق به. وعندما يبوح لها والدها بما قال له الطبيب من انه لم يبق له امامه سوى ثلاثة اشهر تصعد غصتها من الحنجرة الى العينين فتمتلئان دموعاً صامتة: «أذكر ان صوتي اختفى وجسدي أصابه التشنج ولم أعد ألمح سوى الغبش أمامي... لم اكن اعرف ان تلك اللحظة ستغير حياتي الى الأبد. لم اكن اعرف ان ذلك التشنج سيبقى ممسكاً بجسدي حتى هذا اليوم». لكن صورة الأب المريض ستزداد قتامة في المستشفى، في الغرفة 203، عندما كان يخضع للعلاج الكيماوي الذي «سرق شعره» وخطفه من ثم وتركه جسداً هامداً: «لم احتمل ان أراه جسداً. كيف يتحول ذلك الكائن الطافح بالحياة بشهقة واحدة الى مجرد جسد أسدل عينيه إلى الأبد». كتبت ديمة ونوس صفحات جميلة جداً عن الأب، كئيبة ولكن مشرقة في كآبتها، فهي لم تقع في شرك الانثيال المأسوي او الدرامي على رغم الجرح العميق الذي احدثه مرض الأب وموته في روحها وكيانها. هذا الجرح الذي ما كانت لتشفى منه بسهولة. ومرة يقول لها الطبيب النفساني: «لن تكبري قبل ان تقولي إنه مات، ابوك ما راح ، مات». ولن تلبث ان تستسلم لفكرة موته: «إنني اعيش الجنازة الآن بعد ان أنكرتها سنوات. فجأة ادركت ان بابا رحل وأن المواربة لم تعد تجدي. أقمت الجنازة عندما قررت أن أقيمها». ولم تخل صفحاتها عن ابيها من سخرية سوداء، فهي عند اجتيازها الحدود نحو بيروت التي تلجأ إليها وتقيم فيها بدءاً من منتصف عام 2011، يوقفها الحاجز الأمني السوري ويحقق معها في شأن ابيها الكاتب «المطلوب» من أجهزة الاستخبارات ولم يكن العسكريون يدركون أنه رحل قبل خمسة عشر عاماً: «اليوم قبل قليل تحديداً، على الحدود السورية اللبنانية مات بابا». كتبت ديمة ونوس في «الخائفون» روايتين، رواية داخل رواية، احداهما حقيقية بوصفها سيرة ذاتية مضمرة او غير معلنة، والثانية هي رواية الواقع الأليم والمرير، واقع السوريين المصابين بمرض اضحى مزمناً هو «الخوف». انها رواية سليمى وأسرتها التي عاشت الخوف منذ مجزرة حماة، وهي رواية نسيم، الكاتب الطبيب الذي فشل في الطب والكتابة بعدما عاش أقصى حالات الخوف في حمص عندما سقط البيت عليه وعلى عائلته ولم ينج سوى هو وأبيه الذي شلّ وجنّ وحمله معه في الختام إلى ألمانيا. لعلها أيضاً رواية الطبيب النفساني كميل الذي غدت عيادته صورة مصغرة عن سوريا الراهنة. وكم وفّقت ديمة في فكرة جعل الكاتب وسيم فاشلاً في كتابة روايته المفترضة وعاجزاً عن إنهائها مثله مثل سليمى الكاتبة الأخرى، لتكتب هي عوضاً عنهما، رواية سورية الثورة والحرب، سورية الخوف والاضطراب والانفصام في ظل نظام دكتاتوري لم يرحم البشر ولا الأرض ولا الذاكرة.