الميوعة هي ما يقلق في ردود الفعل العامة الصادرة عقب الاعتداء على كنيسة سيدة النجاة في بغداد، ثم تكرار الاعتداء على المسيحيين بعد تلك الحادثة البشعة بأيام، عبر استهداف منازلهم في هجمات واسعة بالقنابل. صحيح أنه صدرت بيانات استنكار من مراجع دينية مسلمة في العراق وخارجه، ومن حركات سياسية، ولكنها بدت أشبه برفع العتب منها بإدراك دلالات الأمر وخطورته. وصمتت أطراف عدة، دول ومرجعيات وحركات، ممن هي معنية مباشرة باتخاذ موقف واضح. هذه السوية من ردود الفعل هي دون المطلوب بكثير، إذ لا تحمل مقدار اللهفة والاحتضان الكفيلين بطمأنة المسيحيين العراقيين، والمشرقيين عموماً، إلى مصيرهم. ومن الملفت أن المقالات حول الواقعة كانت كثيرة، ولكن معظمها تعامل معها وصفياً وتقريرياً، كقدر مفجع يصيب الأمة، مأساة إضافية تضاف إلى مآسيها، والسلام. وهذا موقف عاجز، بينما من الممكن، والمطلوب، صدور بيانات ولكنْ أيضاً مبادرات ملموسة ومستمرة، قاطعة في شدة وضوحها، تكفل إيصال الرسالة إلى المسيحيين: إخافتكم وتهجيركم ممنوعان، وحماية وجودكم مسألة وطنية عليا وليست من قبيل «التسامح» الإنساني أو الحضاري معكم. وكذلك فمطلوب إدانة لا لبس فيها لمرتكبي المجزرة، بلا ارتباك حيال هويتهم وما يمثلون، ولا محاباة لأوساطهم مراعاة لمصالح ضيقة وذاتية. لماذا؟ لأن المسيحيين ليسوا أي أقلية كانت! هكذا وبصراحة، ووفق حسابات سياسية باردة إن شئتم. ولا يعني ذلك بحال من الأحوال أن الاعتداء على سائر الأقليات أمر غير ذي بال، ولكنه يحمل في طياته توحشاً (ليس إلا!)، بينما للاعتداء على المسيحيين نتائج سياسية مباشرة وبعيدة المدى على السواء، علاوة على توحش مرتكبيه. فهذه المسألة تندرج مباشرة في حقل الصراع القائم مع الغرب، الذي سعى طويلاً إلى تحويل المسيحيين المشرقيين إلى أتباع له، ولم ينجح في الغالب الأعم، بدلالة وقائع ما جرى خلال كل فترات الحروب الصليبية، ثم وضعَهم في ظل حماية قناصله حينما ضعفت الإمبراطورية العثمانية واضطرت للقبول بهذا التدبير. إذاً، وحتى إشعار آخر، تحمل المسألة المسيحية في المشرق معنى مضاعفاً يمتلك دلالة سياسية من جهة، ويتعلق أيضاً وبالطبع بوجود وحقوق أقليات غير مسلمة في هذه المنطقة، هي غالباً سكان البلاد الأصليون الأكثر رسوخاً في بيئاتها: انظروا كيف أن الأمر في العراق يتعلق ب «الكلدان» و «الأشوريين» و «السريان»، أقدم كنائس الأرض من جهة، قبل روما بمئات السنين، وسكان تلك الأصقاع الأصليين من جهة ثانية، مثلهم في ذلك مثل الصابئة المندائيين، واليهود... أتباع إبراهيم، ابن أرض الرافدين لمن نسي! وفي هذا السياق، فالمواقف الغربية المتعلقة بالحدث مقلقة هي الأخرى للغاية. فها السلطات الفرنسية تعلن، على لسان وزير الهجرة السيد بيسون - الذي تميز بمحاربته الشديدة لمهاجري فرنسا من المسلمين، وإن كانوا من الحاصلين على الجنسية الفرنسية بعد وفود أجدادهم إلى هذه البلاد – أن فرنسا ستستقبل 150 مسيحياً عراقياً، ممن كانوا في تلك الكنيسة حين وقع الاعتداء عليها، وبينهم بعض الجرحى للعلاج. ومن المتوقع أن تستمر فرنسا وسواها من الدول الأوروبية، وكذلك الولاياتالمتحدة وكندا واستراليا الخ...، في تسهيل هجرة المسيحيين المشارقة ومنحهم تأشيرات وبطاقات إقامة، بحيث تساهم في إفراغ منطقتنا منهم. وهم يفعلون بدعوى «حماية المسيحيين»، غير آبهين بهذا الانفصام الانتقائي بين علمانيتهم المتشددة وهذا الموقف. وقد أطلقت فرنسا برامج بحثية وعملية عدة مخصصة للمسيحيين المشارقة، في ما أراه أشبه بقبلة يوضاس الشهيرة. وفي كل حين، تَستحضر تلك الأفعال ما قاله الجنرال الفرنسي غويبه، قائد الحملة على سورية وممثل الجنرال غورو، حين وصل إلى سورية عقب ثورتها العربية، وراح مسرعاً إلى قبر صلاح الدين قائلاً «ها قد عدنا!» في استحضار/استملاك غريب للتراث الصليبي. وهذا لعب بالنار من قبل فرنسا ومثيلاتها. ولكن المهم هو تعاطينا نحن مع الأمر، ومقدار إدراكنا لمصالحنا بهذا الصدد. وهنا يتضح أن الحدث نموذجي للكشف عن بنيتنا الذهنية والقيمية، وعن فعاليتنا السياسية على السواء. ثمة ظواهر أخرى شديدة الدلالة في السياق ذاته: - فقد غُيِّبت تماماً مسؤولية الاحتلال الأميركي العراقَ. فالاحتلال مسؤول، وفق القانون الدولي، عما يجري في البلاد التي احتلها، وسيكون من أشد السخف إعفاؤه من هذه المسؤولية وتناسي الدعوة إلى محاسبته، ليس فحسب عن الاعتداءات التي ارتكبتها قواته مباشرة، وهذا بذاته ملف هائل، بل عن كل ما جرى منذ لحظة الاحتلال الأولى وحتى حادثة الكنيسة، (وما سيليها، مما يمكن تخمينه بناء على الخراب والفساد اللذين تسبب بهما الاحتلال). والأرقام فصيحة للغاية: هناك اليوم 150 ألف مسيحي في بغداد مقابل 450 ألفاً يوم وقع الاحتلال، وهناك 14 كنيسة كلدانية – وهي الطائفة المسيحية الأكبر – مقابل 28 عند الاحتلال! - ويقال في تعظيم بشاعة ما جرى في الكنيسة أن جل الضحايا الأربعين هم «من النساء والأطفال»، وهي إضافة نافلة تضع الحدث، كعادتنا في مثل هذه المواجهات، في سياق استدرار الشفقة البدائية، لأنه يضمر أن النساء والأطفال أكثر براءة من الرجال حين يسقطون، وكأنما في مكان ما من عقلنا استهانة بجوهر الحدث نفسه: فهل يكون أهون لو كان ضحاياه من الرجال؟! - ثم لماذا تنحصر إضاءة شموع التضامن مع مسيحيي العراق بمسيحيي لبنان وفلسطين؟! هيا يا قوم، وإلا صح اعتبار تظاهرة الإسكندرية تعبيراً عن حالة عامة مضمرة. هذه خرجت بعد أيام من الاعتداء على كنيسة بغداد، وأحاطت بها قوى الأمن من دون أن تمنعها (بينما تُمنع التظاهرات لأتفه الأسباب في المحروسة، ويُقمع دعاتها بلا رحمة). وكانت تظاهرة الإسكندرية تدعو إلى «مقاطعة النصارى»، محلاتهم وأحيائهم وتجارهم والعلاقات الإنسانية معهم! ثم، أليس في ترك الأمور تصل إلى هذا الدرك، بعد عقود من إدارة «المسألة القبطية» في مصر بأسوأ الأشكال الممكنة، لعب بالنار اشد وقعاً مما ترتكبه السلطات الغربية؟! في المقابل، تبلورت ردود فعل شعبية عراقية تحمل على الأمل: نساء محجبات، ونساء ملتفات بالعباءات، حضرن عفوياً وبلهفة، وزرن الكنيسة وأشعلن الشموع، وتبعهن رجال أسماؤهم محمد وياسر وحسين، واتحادات طلبة ومنظمات شبيبة ونساء. وشعراء – والشعر في العراق عبادة! – أقاموا «قداساً شعرياً» كما أسماه أصحابه. بعض الدعوات – وهي كثيرة وشاعت بواسطة الفايسبوك – انطلقت من ساحة كهرمانة ثم سار الحشد إلى الكنيسة ينضم إليه المارة بلا تردد. رائع، ولكنه لا يكفي، ولا يعوض عن المواقف الأخرى المفتقدة.