لا يحمل اسم برنامج «أضواء المدينة» أي جديد، بل لعل هذا العنوان يعد من أكثر العناوين شيوعاًَ في عالم الفنون والآداب والإعلام. لكن الجديد يكمن في مضامين هذا البرنامج الذي تقدمه القاصة والروائية السورية ديمة ونوس، في أولى تجاربها كمقدمة برامج تلفزيونية، وتبثه أسبوعياً قناة «المشرق». البرنامج يستغرق نحو ساعة وربع ساعة، ويسعى إلى قراءة المشهد الثقافي السوري بلسان صناعه، ورصد الحراك الثقافي السوري والعربي، عبر استضافة شخصية ثقافية مؤثرة سواء في مجال الشعر، الرواية، التشكيل، السينما أم المسرح. ولا يكتفي البرنامج بمجرد طرح أسئلة تقليدية يجد فيها المثقف الضيف فرصة للحديث عن إسهاماته وانجازاته، الحقيقية حيناً والوهمية في كثير من الأحيان، بل ثمة أسئلة «حرجة» تلامس المحطات النافرة والحادة لهذه التجربة أو تلك، وتستهدف مكانة الضيف الذي يجد نفسه في موقع الدفاع بدلاً من تصوره المسبق أنه سيكرس هذا «المنبر الفضائي» للمديح الذاتي، كأن يُسأل الشاعر عادل محمود عن سبب عدم رواج دواوينه الشعرية، وعزوف الجمهور السوري عن قراءة قصائده! ما يعيد إلى الأذهان مفارقة طريفة، فإذا كان الفنان البريطاني شارلي شابلن قد أنجز فيلمه «أضواء المدينة» صامتاً، فإن السمة البارزة لهذا البرنامج الذي يحمل الاسم ذاته، هي المشاكسة، والصوت العالي، و«الجهر بما هو مسكوت عنه». والى جانب هذا الاستفزاز يستعين فريق البرنامج الذي يضم الزميل راشد عيسى كمشارك في الإعداد، بشهادات مصورة لعدد من النقاد والمهتمين بموضوع الحلقة، وهؤلاء يبتعدون من المديح المجاني عبر مساءلة التجربة الفنية لضيف البرنامج، كما جرى في الحلقة التي استضافت الفنان التشكيلي السوري احمد معلا الذي اضطر إلى الدفاع عن نفسه أمام هجوم الفنان الشاب تمام عزام الذي لم يذكر معلا بالاسم، لكنه طالب بأن تكون للفنان بصمته الخاصة، وألا يقلد من سبقوه، موضحاً في سياق مداخلته الفارق بين التقليد والتأثير. استشاط معلا غضباً من مداخلة عزام، لدرجة أنكر فيها شرعية الصفة التي أطلقت عليه: أي صفة «فنان»، وقال حرفياً: «لا يحق له أن يكون في هذا المنبر»، منتقداً التلفزيون في كونه «يقدم كلاماً ويمضي»، وعندما حاولت ونوس التوضيح بأن هذا الفنان شارك أخيراً في مزاد كريستز إلى جانب فنانين كبار مثل لؤي كيالي وفاتح المدرس، رد معلا ان ذلك لا يمثل معياراً فنياً! وفي مكان آخر اقتبست ونوس كلاماً نقدياً يفيد بأن لوحة معلا تخلو من الجماليات التشكيلية على حساب البعد الإعلاني (استناداً إلى أن اختصاص معلا الأكاديمي هو الاتصالات البصرية أو الإعلان). وهنا، أيضاً، ظهرت علامات التأفف على وجه معلا، الذي لم يمتنع عن التدخين خلال التصوير، وقال ان «هذا الكلام لا يستحق الرد». لكنه دخل في شرح مسهب حول أن الاختصاص الجامعي لا يشكل قيداً للفنان، «فليس بالضرورة أن من يتخرج في قسم النحت ينبغي أن يكون نحاتاً مثلاً، بل ليس بالضرورة أن كل من يتخرج في كلية الفنون الجميلة يجب أن يصبح فناناً، بالمعنى العميق لهذه الكلمة». على رغم هذه المماحكات الثانوية، فإن معلا بدا، على رغم هيئته الارستوقراطية، منظّراً جيداً للفن التشكيلي، وراح يتحدث عن تجربته مستخدماً جملاً وعبارات تنم عن فنان مثقف، واسع الاطلاع، وتحدث كذلك عن الصالات وأصحابها وعن أسعار اللوحة، وعن الأجيال الفنية الشابة، وعن مشروعه الطموح؛ المتعثر، في تلوين البيوت الدمشقية الغافية على سفح قاسيون كي تكون، وفق تصوره، أشبه بقلادة ملونة تزين المدينة. وتناول في حواره الفن بصفته مشروعاً ثقافياً ومعرفياً في الدرجة الأولى. الديكور هو ذاته في كل الحلقات، فهو بسيط وعميق في آن، إذ يُظهر في الخلفية صوراً لرموز الثقافة السورية: نزار قباني، سعدالله ونوس، محمد الماغوط، حنا مينة...، وثمة شاشة تبرز أعمال الفنان الضيف، بينما تتبدى في شارة البرنامج عازفة كمان، وأضواء ساطعة تسير لتحاصر قطة وحيدة! وتخفف ونوس بحضورها الهادئ، من سطوة الأسئلة، فهي لطيفة إلى الحد الذي تبدو معه أي أسئلة استفزازية، مقبولة ومحببة! بل تبدو أحياناً، ولفرط تهذيبها، وكأنها ستقدم اعتذاراً للضيف لولا أن «المهنية» لا تسمح بذلك!