قضى اللبناني فواز نجم، 22 سنة من الخدمة في وحدة الاستخبارات الاسرائيلية «504» حتى آخر يوم لها في لبنان عام 2000. فواز اطلق صرخة احرجت بعض من كان حولنا من لبنانيين يصغون اليه، اذ راح يقول بلهجته اللبنانية ومن دون تردد ولا تلعثم: «بدي اتمنى وإترجى... بدي بوس ايدين ورجلين السيد حسن نصر الله ورئيس الجمهورية اللبنانية وأي انسان معني بوضع اللبنانيين. بدى اترجاهم يشيلو اولادنا من اسرائيل... بدي اترجاهم ينقذوا اولادنا وأطفالنا من المستقبل اللي ينتظرنا بعد ما قسم منهم راح الى الجيش الاسرائيلي وبعد ما عدنا قادرين نسيطر عليهم. المسلم نسي القرآن وحفظ التوراة والمسيحي نسي الانجيل وحفظ التوراة حتى وصلوا اولادنا لدرجة يقسموا انواع اللحم والاكل «الكاشير» (المحلل بحسب الديانة اليهودية) والمحرم مثل اليهود المتدينين...». صرخة فواز نجم تعكس موقف ثمانين في المئة على الاقل من اللبنانيين المتبقين في اسرائيل على ما يؤكد هو. صحيح ان هناك العشرات ممن يقولون صراحة انهم يرفضون العودة الى لبنان، بل ان امهات لم يترددن في الاعلان عن قبولهن دخول ابنائهن الى الجيش الاسرائيلي ويقلن صراحة انهن يجدن مستقبلهم هناك. وصحيح ان اصواتاً قليلة لا توافق فواز نجم بأن حياتها باتت كلها معاناة ومتاعب وكما يلخصها محدثنا: «عيشة ذل... عيشة كلاب...». ويقول: «بصراحة رمونا مثل الكلاب». لكن الغالبية توافق فواز لأنها تخشى من مصير يشبه مصيره. انه يعيش داخل خيمة نصبها على قارعة شارع في بلدة كريات شمونة، بعدما طرده صاحب البيت لعدم قدرته على دفع الايجار الشهري لفترة طويلة. والسبب هو رفض اسرائيل، وبالتحديد وزارة الدفاع، التعامل معه كما تتعامل مع ضباط خدموا في الجيش وضمان تعويضات لهم وفي مقدمها بيوت وأجرة سكن. وهذه هي المشكلة التي يشدد عليها كل لبناني من ميليشيات لحد قرر الحديث عن معاناته منذ فراره الى اسرائيل. فمنذ سنوات طويلة واللبنانيون يتظاهرون ويحتجون ويطالبون اسرائيل بضمان الحد الادنى من احتياجاتهم. لكن من دون جدوى، وفواز نجم ليس اول لبناني في اسرائيل يعيش في خيمة في الشوارع الاسرائيلية وهناك من يرى ان استمرار الوضع الحالي من دون تغيير ينذر باحتمال نصب خيم اخرى في مختلف البلدات اليهودية التي يعيش فيها لبنانيون. الموت في لبنان أفضل من الخيمة التي نصبها على قارعة شارع في كريات شمونة المجاورة للحدود مع الوطن، يقول فواز نجم انه بعد عشر سنوات من الصمت والتكبر، وصل الى وضع يقول فيه: «كلمة نادم لا تكفي». لقد وصل فواز نجم الى اسرائيل ومعه 400 الف دولار، على رغم انه قال إن خدمته داخل الجهاز «504» كانت من دون مقابل. هذا المبلغ صرفه وعائلته خلال عشر سنوات بعدما رفضت اسرائيل إدراجه ضمن قائمة الضباط الذين حصلوا على تعويضات من الدولة العبرية وشملت سيارات وراتباً شهرياً وبيتاً وبعضهم حصل على فيلات. والجهود التي بذلها فواز لتحسين وضعه لم تجده نفعاً. حتى جولته على عدد من الضباط الاسرائيليين الذين كانوا قياديين في الوحدة «504» في لبنان وحصوله منهم على توصية تؤكد خدمته وتفانيه خلال 22 عاماً في جهاز الاستخبارات، ذهبت مع الريح الى ان وصل الى الوضع الحالي، وهو ما دفعه الى القول انه يصر على عدم التراجع عن حقه وملاحقة كل المسؤولين في اسرائيل حتى آخر لحظة وإن ادى الامر الى قتله، على حد قوله. عندما يتحدث اليوم فواز عن ندمه، يتذكر العشرات من اللبنانيين الذين ورطهم للعمل في جهاز الاستخبارات الاسرائيلية ويتذكر في شكل خاص ذلك الضابط السوري الذي بحثت اسرائيل عن امثاله لينضم الى استخباراتها. ويقول ان تجنيد هذا الضابط كان يعتبر من انجح المهمات التي قام بها خلال خدمته في الجهاز «504». فواز يقول انه نادم كلما تذكر اللحظات التي جند فيها هذا الضابط اذ أُلقي القبض عليه وربما قتل... «انا لا اعرف شيئاً عن مصيره، لكن كل ما اعلم ان عائلته جاءت وأبلغتني انه ضبط... اعتقد انه قتل وأنا نادم جداً لأنني كنت سبب قتله وهو أب لأطفال بأمس الحاجة الى والدهم». ويقول فواز ان معظم من ضبطوا أخيراً في شبكات التجسس في لبنان كانوا مجندين قبل الانسحاب الاسرائيلي ولكن «يبدو انهم لم يجرؤوا على ترك عملهم وتورطوا الى حد كبير ولم يقدروا على ترك الارتباط مع الموساد الى ان ضبطوا وأصبح مصيرهم كمصيرنا... رمتهم اسرائيل ولم تقدم اية مساعدة لإنقاذ احد منهم. ويقول: «عملنا في هذه الوحدة، آنذاك، كان يتركز على تجنيد لبنانيين وسوريين كانت لديهم الامكانية لمساعدة اسرائيل من خلال مواقعهم». وعلى مدار 22 عاماً خدمة فيها، يقول فواز: «جنّدنا المئات وضبط منهم العشرات وأُعدموا وعلمنا عن الكثيرين ممن اعدموا في سورية بعد ضبطهم في العمل في جهاز «504». من هم الذين تضعهم اسرائيل هدفاً لجهاز الموساد؟ بحسب فواز فإن الاشخاص الذين كان يطلب منه تجنيدهم كانوا في معظمهم من عائلات وأقارب لشخصيات في مواقع مهمة في السلطة وكانت اسماؤهم معروفة وأحياناً كثيرة، يضيف: «كانوا يستهدفون من لا يجيد القراءة والكتابة وهؤلاء بالذات كان يتم تجنيدهم لتنفيذ عمليات». وبحسب ما يدعي، فإن علاقة اللبنانيين الذين خدموا في هذا الجهاز مع قيادتهم بدأت تتزعزع بعدما كلفوا مهمات ملاحقة حزب الله، ويقول: «بدأنا العمل معهم ومساعدتهم في تجنيد اللبنانيين من اجل محاربة المنظمات اللبنانية التي بدأت تجتاح قرانا وكذلك المنظمات السورية. وفي الحقيقة قبلنا ذلك لأننا وجدنا في هؤلاء اعداء لنا. رأيناهم كالجيوش التي تريد احتلال لبنان وهذا دفعني شخصياً الى تجنيد العشرات من اللبنانيين في الموساد ولكن... يضيف فواز: «بعد عام 1989 اختلفت المهمات الملقاة علينا وبدأ جهاز الموساد بتوزيع مهمات ضد حزب الله وفي مواجهته فوجدنا انفسنا في حرب مع الحزب، وهنا بدأت العلاقة تختلف مع قيادة هذا الجهاز لأنهم ادخلونا في حرب لا شأن لنا فيها». الخدمات الكثيرة التي قدمها فواز لذلك الجهاز، والعقاب الذي يتوقعه بسببها، لا يمنعانه من القول انه على استعداد لأن يعود الى لبنان وينال عقابه... «فهذا افضل من البقاء في الذل الذي نعيشه في اسرائيل»، على حد قوله، ويضيف: «22 عاماً خدمتهم في هذا الجهاز واليوم يرمونني هنا كالكلب. حتى ابسط الاحتياجات لا يقدمونها إلي ولا الى غيري من العائلات اللبنانية. هنا في كريات شمونة منذ عشر سنين ونحن نطلب مكاناً للصلاة... فقط قبل ستة اشهر وافقوا على تصليح احد الملاجئ الذي استخدم في حرب تموز وتحول الى مكان صلاة بدل الكنيسة». رجال دين يتفاوضون مع الحكومة اللبنانية على مصيرهم الى خيمة فواز جاء اللبناني ميلاد الفحيلي وهذا كان اكثر الموجودين غضباً على الوضع الذي يعيشونه. فهو يعيش حال قلق شديدة على مستقبل اولاده وهو يتابع عن كثب ما يحدث من تطورات لقضيتهم في لبنان وإمكانية عودتهم. ويقول ان المفاوضات حالياً تجرى بين رجال دين وبين الدولة اللبنانية للتوصل الى صيغة متفق عليها لإعادتهم. وعند سؤاله عن الذي يزعجه، رد بغضب: «السؤال ماذا يعجبني هنا... لا شيء يعجبني في هذه الدولة لأنني لا اعرف اي مستقبل ينتظر اولادنا. نحن اليوم نريد فعل أي شيء لإعادة اولادنا الى لبنان. نريد التوجه الى الهيئات الدولية والاعتصام امام الفاتيكان وطرق كل الابواب الممكنة لإعادة اولادنا لأنهم يتعرضون لخطر لا احد يعرف نتائجه»، ويضيف: «لم نعد قادرين على السيطرة على مستقبل اولادنا. انا شخصياً لا ارى اولادي اكثر من ساعتين في اليوم وهناك اقبال من الشباب على الجيش الاسرائيلي، ومن جهتي اذا توجه ابني الى الجيش لست مسؤولاً، وشخصياً ارفض رفضاً قاطعاً ان يذهب ابني الى الجيش لأن ذلك يعني ان يستدعوه كبقية الجنود الاسرائيليين الى الاحتياط وقت الحرب... ومع من ستقع الحرب. اولادي لا يعرفون عمّاتهم ولا اولاد أعمامهم او عماتهم، فإذا حاربوا ضد لبنان، قد يصوّبون البندقية في وجه جدتهم او عمتهم وهذا ما نخافه... هذا ما يقلقنا اليوم». ميلاد الفحيلي وبعد اكثر من عشر سنوات يعلن انه نادم «انا نادم. اقول اننا اخطأنا. ولكن ليس وحدنا من اخطأ. الجميع اخطأ. امل اخطأت. حزب الله اخطأ. والكل اخطأ، لماذا فقط نحن لا يريدون حل مشكلتنا. أولادنا لا ذنب لهم، فليعيدوا اولادنا الى لبنان».