يملك الفنان الكبير إدوارد هوبر منزلة خاصة في تاريخ الفن التشكيلي الأميركي. وهو الذي نقل تيار «الانطباعية» الفرنسية إلى المناظر الحضرية المحدثة في نيويورك وسواها، محافظاً على الشخصية التصويرية المتميزة محلياً في خمسينات القرن العشرين. يبادر «متحف الأرميتاج» في لوزان للاحتفاء بخصوبة هذا المعلم الذي رحل عام 1967 في نيويورك، من خلال معرض استعادي بانورامي نخبوي، يعانق مئة وستين عملاً من أشهر أعماله المفصلية، انتخبها المتحف الخاص به «ويتني» من أصل ميراث يتجاوز الألفين وخمسين لوحة. ويشتمل العرض على نماذج محفوراته الطباعية التي عرف بها قبل تحوله إلى التصوير، كان يمارس في تلك الفترة الكرافيكية بخاصة «الرسوم التوضيحية»، وبعضها متعثر في الاستهلاك لكسب عيشه. هو ما يفسّر عنايته بالرسوم التحضيرية السابقة للوحة، عرضت نماذج عنها وصل عددها في بعض اللوحات المرافقة إلى عشرة رسوم كما هي لوحة «شمس الصباح»، كما أكد المشرفون على المعرض على المرحلة الباريسية ما بين 1906 و 1910 ويمثل ضفتي نهر السين، يشتمل المعرض على أشهر لوحتين: «السهرة الزرقاء» و «الحانة». تذكرنا هذه الانعطافات بمعاناته المريرة قبل الاعتراف به، وابتدأت موهبته في الرسم منذ السادسة قبل أن يصبح شاباً ناشطاً ويتابع دراسته الفنية في مدرسة الفنون (البوزار) في نيويورك، ليسافر في الفترة المذكورة إلى باريس لإتمام دراساته الفنية في «المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة». وتاريخ عام 1924 يعتبر حاسماً بالنسبة إليه، يشهد بيعه عدداً كبيراً من لوحات الألوان المائية. انفجرت شهرته إثر ذلك حتى مثل الفن الأميركي في «بينالي فينيسيا» لدورة عام 1952. هو من مواليد نيويورك عام 1882 ضمن عائلة بروتستانتية من البرجوازية المتوسطة، دربه أستاذه منذ البداية على تذوق الإسباني فيلاسكس وتلميذه الفرنسي مانيه قبل أن ينخرط في عقائد التيار الانطباعي وريثهما. وظل هاجس الضوء الطبيعي وإسقاطاته المساحية التلوينية والقزحية المسطحة، مطوقة جميعها بخطوط مائلة، أساساً عملياً لتقاليد التكوين الفراغي الخاص في اللوحة الأميركية سواء الواقعية منها أو الانطباعية أو التعبيرية، ووصلت سكونيته الصماء إلى حساسية تيار «البوب آرت». يكتب أحد النقاد أن «هوبر هو أميركا الخالدة والمبتذلة في آن واحد». عرف بمتانة حساسيته المستقبلية الحداثية في نيويورك معبراً عن حاضرة التطور الصناعي والبرجي، ممثلاً بصدق وهوية خاصة صريحة النموذج الفني الأميركي باندماجه في الحياة اليومية، مقتنصاً لقطات سكونية صامتة من دون حركة أو ضجيج تماماً كما هي تلغيزات الصور في أفلام ألفريد هتشكوك، تجمعها العوالم الملغزة والملتبسة قرينة عالم الصمت الأبدي والمطلق. إذا اثارته الحركة الانطباعية الفرنسية وتعامل بلا مبالاة مع تجديدات وجرأة الوحشية والتكعيبية، فإن حداثته تفد من سكونية مشاهده الخرساء بمساحاتها المضيئة أو المظللة. هي التي تجري في زوايا المدن الحديثة: منازل غارقة في الضوء وشخوص عزلوية، يصور المكاتب والأبراج وبارات مانهاتن والفيلات ذات الطراز الفيكتوري أو المطلة على شواطئ لازوردية، ترى من واجهة أو نافذة بلورية كما هي ألوان أحواض السمك (الإكواريوم). قد تكون «سوريالية» روما أشد تأثيراً في لوحته (خلال الدراسة) من نظيرتها في باريس... لعله اقرب إلى ميتافيزيقية شيريكو وواقعية سيروني منه إلى الحساسية الفرنسية. تملك مناخاته ثقل المساحات المحروقة بالشمس وصمت الظلال الغارقة في ليل دامس متوحّد.