تتمتع أعمال الفنان التشكيلي المصري حلمي التوني برصانة التكوين وصفاء اللون. عُرف باستلهامه الموروث الشعبي وارتكازه على ذخيرته التي لا تنضب وبوتقته التي انصهرت فيها العصور والحقب الإنسانية التي مرت على مصر بدءاً من الفرعونية إلى الإسلامية مروراً بالقبطية واليونانية. بدأ التوني رحلة استلهامه الفن الشعبي مقلداً مفرداته وعناصره، كما يقول، لكنه سرعان ما تحول إلى مرحلة أخرى بعد أن تشبعت روحه وذاكرته البصرية بعشرات بل بمئات الأشكال والرموز والدلالات الخاصة، فاستطاع أن يبدع لنفسه رموزه ودلالاته التي تنتمي إليه، من دون أن يقطع حبال التواصل مع ذلك الفن الذي أبحر فيه لسنوات وذابت روحه في تجلياته ودلالاته المختلفة. وهو حين قرر الالتجاء إلى الفن الشعبي إنما فعل ذلك لهوى شخصي، كما يقول، ثم لرغبته في العودة إلى الأصول والبدء منها كما فعل فنانو عصر النهضة الأوروبي حين استلهموا فنون الحضارة الرومانية وأعادوا بناء صروحها التي تهدمت، ثم انطلقوا من خلالها إلى رحاب أخرى أوسع وأكثر ثراء. وهو على رغم استقراره الفني وتميز مفرداته وأشكاله وعناصره بطريقة لا تخطئها العين، إلا أنك لا تشعر في أعماله أبداً بالرتابة أو التكرار. يتذكر أنه حين أقام أول معرض له في القاهرة بعد عودته من لبنان، شعر بالحيرة أمام إحدى لوحاته والتي أبدى كثر إعجابهم بها ونصحه أحد أصدقائه بأن يرسم لوحة أخرى شبيهة بها كي يستثمر ذلك الإعجاب، لكنه حين سأل الفنان الراحل حسين بيكار نصحه بأن يبعد تلك اللوحة تماماً عن معرضه ويعمل على إخفائها. يقول حلمي التوني: «عرفت بعد ذلك الفرق بين الرأيين وكيف يحمل ذلك التناقض بينهما هوة واسعة ومفهوماً مختلفاً عن الفن لا يدركه معظم الناس، ويمثل التباساً يقع فيه الكثير من الفنانين الذين يتحركون في دوائر مفرغة ويتوقفون عند أول بادرة نجاح، فلا يستطيعون أن يواصلوا الطريق إلى آخره على رغم المغريات التي قد تكون في انتظارهم. هؤلاء يكبلهم النجاح الآني وتطفئ كلمات الإعجاب والاستحسان من وهج إبداعهم وتجدده. كثر وقعوا في ذلك الفخ من دون أن يدركوا أن الفن في حقيقته هو دعوة الى التغيير والتجدد المستمر». وتعد المرأة أحد الملامح الرئيسة في أعمال التوني. ومن النادر أن تخلو لوحة من لوحاته من هذا الوجود الأنثوي في شكله المباشر أو غير المباشر. سألته: ماذا تمثل المرأة بالنسبة إليه وما سر وجودها الطاغي في معظم أعماله، فردّ قائلاً: حين أرسم المرأة لا تهمني الملامح والنسب والألوان على رغم ضرورتها بقدر ما تهمني الدلالة التي تختبئ خلف هذا الكيان البديع، فالمرأة دائماً مرادفة للخير والعطاء والحنو والعاطفة والغريزة أيضاً. وهي الأقدر فنياً على تحمل أو استيعاب الكثير من المضامين والرموز التي أقدمها في أعمالي دائماً. أنا لا أرسم المرأة في حد ذاتها ككيان يحمل قدراً من الجمال فقط. بل كعنصر يحمل مضامين أخرى ودلالات متعددة تتوافق مع رؤيتي للواقع والمجتمع من حولي. فأنا فنان له موقف اجتماعي. وأعتز بذلك الموقف. وكان من الممكن أن أرسم زهوراً أو بورتريهات لنساء جميلات أو أشياء غرائبية أو غيرها. لكنني لم أفعل لأنني أؤمن بفكرة مفادها أن هناك علاقة بيني وبين الناس وبيني وبين الوطن على المستوى الضيق وأعني مصر، أو على المستوى الأكثر شمولاً من المحيط إلى الخليج. بعد هزيمة 1976، ارتفعت الأصوات المطالبة بالحرب، لرد الاعتبار، وترتب على ذلك إبعاد عشرات الصحافيين، وبينهم حلمي التوني، عن الصحف التي كانوا يعملون فيها، وذلك قبل اندلاع حرب 1973 بشهور قليلة. هكذا وجد التوني نفسه فجأة مطروداً من دار الهلال، فقرر السفر إلى لبنان لبعض الوقت حتى تستقر الأمور. ويقول التوني: «بقيت في لبنان حتى حدث الاجتياح الإسرائيلي في 1982. وعشت أيام حصار بيروت الذي استمر الى ما يزيد على شهرين. ولم أقرر مغادرة البلد إلا خوفاً على زوجتي وابنتي التي كادت تموت من الجوع والعطش. عدت إلى القاهرة وليس معي أي مدخرات. كما لم يكن لي بيت. حتى الناس كانت قد نسيتني تقريباً. فكان عليّ أن أبدأ من الصفر. وأذكر أن أول معرض لي بعد العودة كان في بداية عام 1985 بمساعدة الفنان والناقد الراحل أحمد فؤاد سليم». حين يتذكر حلمي التوني بداية ولعه بالرسم، يعود إلى سنوات عمره المبكرة. فقد كان في سن الرابعة حين رسم بقرة لاقت إعجاب والده كثيراً. وسرّ هو بذلك الإعجاب والتشجيع. وظل هذا المشهد يراوده ولم يفارقه حتى اليوم. وكان دافعاً له يقوده من مرحلة إلى أخرى وسبباً في اتجاهه الى دراسة الفن. يقول التوني معلقاً: «ما حدث لي وأنا صغير يندرج تحت ما يسمى تروماتيك في علم النفس وتعني التجربة الصادمة أو القوية التي تدوم. لقد أدهشت صورة البقرة التي رسمتها والدي وأراها لعمّي بنوع من التفاخر وكان لا يزال طالباً في كلية الزراعة. فظلت كلمات الوالد ودهشته محفورة في ذهني إلى اليوم لا تفارقني ومنذ ذلك اليوم بدأ ولعي بالرسم ولم ينته». كان حلمي التوني ينتمي إلى أسرة ميسورة الحال. فقد كانت أمه حفيدة إسماعيل بك المفتش وزير مالية الخديوي إسماعيل، وأحد الوجهاء المعروفين. وبعد وفاة والده اكتشف فجأة أنهم قد أصبحوا فقراء، بعد صدور قوانين الإصلاح الزراعي وتقليص ما لديهم من أراض زراعية. لذا فقد عمل في الصحافة وهو لا يزال بعد طالباً في الفنون الجميلة كي يعيل أسرته. عمل في الرسم والإخراج الصحافي. كما عمل أخيراً في مجال الكاريكاتير. وله رسم يومي ينشر في جريدة الأهرام. سألته: في رسومك الكاريكاتورية في جريدة «الأهرام» تتعرض للكثير من القضايا الاجتماعية والسياسية التي يمكن أن تتعارض مع توجهات الجريدة. ألا يتم الاعتراض أو إبداء أي ملاحظات على بعض ما تقدمه من رسوم؟ يقول التوني: «حين طلب مني العمل في «الأهرام» سألتهم في البداية عن السقف المتاح للتعبير لأنني كنت أعرف أن الباب ليس مفتوحاً على مصراعيه للأفكار كافة في صحيفة قومية مثل «الأهرام». فقالوا لي وقتها إن السقف هو رأس النظام، لكنني اكتشفت بعد ذلك أن هذا السقف الذي يضعونه يشمل أيضاً أشياء أخرى وأشخاصاً آخرين داخل النظام وليس رأس النظام فقط». وما الذي يدفعك الى الاستمرار في العمل داخل «الأهرام»؟ لماذا لم تنتقل إلى صحف أخرى أكثر حرية؟ - لقد تلقيت عروضاً بالفعل للعمل في صحف أخرى مستقلة تتمتع بهامش حرية أفضل مما هو عليه الحال في «الأهرام». لكنني في الحقيقة مستمتع بهذا الجدل والشد والجذب الذي يحدث أحياناً بيني وبين إدارة تحرير «الأهرام». كما أنني ممتن لهم ولدعوتهم لي للرسم على صفحات الجريدة. فأنا مستمتع كما قلت لك بهذا التحدي والشد والجذب. وأنا في الحقيقة ألتمس لهم العذر في ذلك الحذر. فعلى رغم كون «الأهرام» مؤسسة قومية من المفترض أن ليس لها انتماءات، لكن الحقيقة المؤكدة هي عكس ذلك تماماً. فهي تدين بالولاء للنظام، بكل تجلياته ورموزه. وأنا أعتبرها في النهاية مؤسسة حزبية وليست قومية. وهم يحاولون الالتزام بهذا الولاء على رغم المحاولات الجادة التي تبذل داخل المؤسسة من أجل إيجاد حال من التنوع وتعدد الآراء. أخذك البحث وراء الموروث الشعبي إلى مناحٍ كثيرة أثرت في أعمالك ووسمت تجربتك بطابع خاص. فما سر هذا التعلق بمفردات الموروث الشعبي؟ - أنا أنظر إلى تمسكي بالهوية والعمل من وحي الموروث كنوع من المقاومة، مقاومة العولمة. هذه الفكرة التي خرجت علينا من الغرب المتحرر. والذي هو بطبيعة الحال ضد الأنظمة الشمولية. فإذا به يخرج علينا بفكرة العولمة التي أعتبرها نوعاً من الشمولية الجديدة والمناقضة للأفكار الليبرالية التي يدعو إليها. فأنا ضد الهيمنة الثقافية، وضد محو ثقافة الشعوب. فالتعدد والاختلاف هما سمة من سمات البشر التي يجب التشديد عليها وليس محوها أو إذابتها. وأنا على سبيل المثال من أشد المعجبين بأدب أميركا اللاتينية والذي يعتمد في جزء كبير منه على ثقافة الشعوب المحلية. كما أن الحضارة الغربية نفسها تحمل حتى الآن رائحة أو طعم الحضارة اليونانية القديمة. فبدأت أنا أيضاً رحلة البحث عن هذه الجذور والهوية، عن قناعة بأنه يجب علينا أن نكون متميزين ولنا سمات خاصة نابعة من تاريخنا ومعتقداتنا. وهو أمر أشبهه بالطعام، أليس طعامنا مختلفاً عن طعامهم، فلماذا لا تكون مخرجاتنا الإبداعية مختلفة عن مخرجاتهم.