عندما نفشل نحن المسلمين في تحقيق مطلوب فيه مصلحتنا، أو نضعف عن نيل مرغوب نتمناه لأنفسنا، ونشعر باليأس حيال ذلك، فأوّل شيء نصنعه هو البحث عمن نلقي عليه باللائمة، من دون أن ننظر في السبب والعلّة وأوّل ما يتبادر إلى ذهن البعض من عامة الناس هو القدَرَ، ولا شك أن التعلل بالقدر وتخذيل الناس به هو دواء ومسكّن ناجع ومثبط للهمم، وكثيراً ما نسمع البعض يردد جملة هذه إرادة الله. هذا قضاءه وقدره، «ونحن لا ننكر ذلك» ولكن هل بحثْنا وسألنا عن حقيقة إرادة الله وقضائه وقدره؟ هل ما قدّره الله على مستوى الأمم والدول والجماعات والأفراد واضح بيّن أم أنّ وراء التقدير الأزلي والعُمري مقصد جليل وغاية عظمى؟ من المعلوم بالضرورة أن مسائل القدر كانت سبباً في نشوء الفُرْقة بين المسلمين ولأجلها أُظهرت فرقة المعتزلة، ومنذ ذلك الحين وإلى عصرنا وإعتقاد الإنسان هو مقياس قبوله وقربه دنيوياً وأخروياً. إنّ القارئ للقرآن الكريم والسنة النبوية يجد أن جميع ما قدّره الله «من مصائر العباد الدنيوية والأخروية» مجهولة عندنا على التفصيل لا نعرف منها سوى العموم وخطوط عريضة فقط. فعلى المستوى العام روى البخاري ومسلم عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء». وعلى المستوى الخاص ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أحدكم يُجمع خلقُهُ في بطن أمّه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفُخُ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله شقي أو سعيد،». وبناء على ما تقدّم نقول إنّ الله سبحانه وتعالى عندما قال للقلم اكتب فقال القلم وما أكتب فقال اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة فجرى القلم بذلك، لم يُرد أن يعطي بني آدم السبب ليتعلّلوا بالقدر، لأنه ذكر في كتابه الكريم أنه مع تقديره الأزلي والعمري لجميع خلقه في الكتاب المحفوظ إلا أنه بيّن أنّ تغيير ما في الكتاب المحفوظ وتبديله بيده سبحانه وما على العبد إلا طلب ذلك منه سبحانه وفعل أسباب التغيير والتبديل، فقال تعالى في سورة الرعد: (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب)، وهو أيضاً ما أراده النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الستة بألفاظ مختلفة عندما قال سراقة بن مالك رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم بيّن لنا ديننا كأنّا خلقنا الآن، فيما العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما نستقبل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، فقال أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل فقال اعملوا فكل ميسرٌ لما خلق له، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى) فجعل النبي صلى الله عليه وسلم مصير حياة العباد مرهونة بما يقدّمونه من عمل وحسن نيّة بحسب ما ذكره في الآية من توضيح لمعنى كلامه لسراقة رضي الله عنه، وهذا ما أراده الصحابي كعب رضي الله عنه أن يفهمه الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما رواه ابن جرير عنه أنه قال لعمر بن الخطاب يا أمير المؤمنين لولا آية في كتاب الله لأنبأتك بما هو كائن إلى يوم القيامة قال عمر وما هي قال (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب). قال الإمام ابن كثير رحمه عند تفسير آية سورة الرعد: «اختلف المفسرون في ذلك - فذكر بعض الأقوال ومنها ما - روى ابن جرير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال وهو يطوف بالبيت اللهم إن كنت كتبت عليّ شقاوة أو ذنباً فامحه فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب فاجعله سعادة ومغفرة. وكان ابن مسعود رضي الله عنه يدعو بهذا الدعاء أيضاً – وهو ما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف عن ابن مسعود أنه كان يقول: إن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب شقيّا فامح عني اسم الشقاء وأثبتني عندك سعيداً وإن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب محروما مقتّراً عليّ رزقي فامح حرماني ويسر لي رزقي وأثبتني عندك سعيداً موفقا للخير فإنك تقول في كتابك الذي نزلت (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب). قال تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، وقال: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا). [email protected]