كان من عادة العرب في الخطابة أن يقفوا على مرتفع من الأرض أو يقوموا على ظهر دابة مع الأخذ بعصا أو قوس ونحوهما للإشارة بهما، فجاء تميم الداري فكان أول من أمر ببناء منبر بعد أن رأى منابر الكنائس بالشام، وكان مخصصاً للنبي عليه الصلاة والسلام، فماذا عن أمر الخطيب؟ يعد تناسق الملامح واعتدال القامة من الأمور التي تساعد على ايصال رسالته، غير أنها غير واجبة، وهذا هو «ميرابو» خطيب الثورة الفرنسية لم تمنعه دمامته من التأثير الكبير في معاصريه يشاركه في ذلك «دانتون» أحد زعماء الثورة الفرنسية، ذلك أن قوة الروح إنما تتجلى عند الكلام في الوجه والعينين، فتنال من السامع أكثر مما لو كان المتحدث جميل المظهر فاتر المخبر، ثم أن في بشاعة الشكل مفاجأة قد تحمل المستمع على الاعجاب بعد التعجب والاكبار بعد الازدراء، وقد ذكر الجاحظ عن قاضي البصرة إياس بن معاوية المزني أنه أتى حلقة في مسجد دمشق، فرأوه أحمر دميماً رث الهيئة فاستهانوا به، فلما عرفوه اعتذروا إليه بقولهم ان الذنب مقسوم بينهم وبينه، وقد أتاهم في زي مسكين يكلمهم بكلام الملوك. فماذا عن جهارة الصوت وحلاوته؟ على الخطيب أن يعنى بصوته ويدربه فيدرس درجة استعداده واتساعه ومقدرته على احتمال النفس الطويل، ومدى حاجة المكان ومواضع الكلم لرفع الصوت أو الاعتدال به، فضلاً عن أن التمهل في النطق لا يفوت على الأسماع أن تلاحقه وتستوعب قوله، وعلى الخطيب وحده أن يقرر كيف يتلاعب بصوته بين صعود وهبوط مغيراً نبرته ونغمته ووقفاته بحسب المعنى والصورة والاحساس ابعاداً للملل جلباً للانتباه، جامعاً بين الصوت الطبيعي والآخر الموسيقي. وبينما كان من المراعى في تصميم المساجد في ما مضى شكل البناء الهندسي وكيف يكون موافقاً لنقل الصوت، كمثل قبة مسجد محمد علي باشا بجوار قلعة صلاح الدين بقاهرة المعز، والمشيدة بتخطيط هندسي معين يسمح بتضخيم الصوت وترديد الصدى، إلا أنه مع وجود مكبرات الصوت الحديثة وتوزيعها في أجزاء المكان لم يبق على الخطيب سوى أن يزن نبرة صوته بحيث تصل الآذان ولكن لا تخرقها. بيد أن الصوت مهما اختلفت تموجاته إلا أنها لا تكفي للافادة والاقناع والتعبير عن معاني الألم والرحمة والغضب واليأس والاحتقار إن لم تساعد حركات اليد وملامح الوجه وبريق العينين واشارة الطرف والحاجب، فالاشارة من حيث أنها اللغة العامة المفهومة والمتداولة لها دورها في مشاركة النطق ونقل الفكر ولكن عن طريق البصر، صحيح أن بعض الخطباء قلما يحتاج إلى الاشارة، وقد لا يستعملها على الاطلاق، ولكن هناك من يفرط فيها أيضاً ويعود في ذلك إلى العادات المتبعة، وعلى كل، على الخطيب أن يكون طبيعياً ويحمل في نفسه شعلة الإيمان بما يقول ليؤثر من غير صراخ ولا تصنّع ولا تدجيل. كم من خطبة اشتهرت فوقعنا عليها فلم نجد لدى قراءتها ما يبرر لها شهرتها! مما دل على أن الصوت وحسن الأداء وهيئة الخطيب من العوامل التي ساهمت في نجاحها، فكيف هو حال خطباء مساجدنا اليوم؟ وكيف هو حسن اخراجهم لخطب يوم الجمعة، دع عنك مضمونها واعداده؟ حتى فقدت الخطبة أهميتها فتجد المصلي يصل قبل انتهائها ليلحق بصلاته لأن أمر الخطبة لم يعد يحرص عليه ولا ينتظره، بل قد يفاجئه فحواها بما لا يحبذ أن يسمعه أبناؤه، وعوضاً عن أن يكلف نفسه عناء تصحيح ما يقوله رجل بحجم امام المسجد، أو يفسر لفتيانه تشنج رجل الدين وزعيقه وسمات الورع التي اختفت وراء حجاب، عوضاً عن ذلك اقتصر مفهوم صلاة الجمعة عند البعض على صلاة بلا خطبة. [email protected]