الأمن الفكري، يعني سلامة الفكر من الانحراف، تحت وطأة العقول المتطرفة، إما انغلاقاً وإما انفتاحاً، خاصة تلك التي تدفعها دوافع عدة متسترة بستار الدين الإسلامي، ومن أول دوافعها تحقيق ما تحلم به من أمجاد شخصية على حساب الدين وتتخذ من مظلته عباءة لها، ثم تقوّض مبادئه الداعية إلى السلام والخير، والقائمة على أساس العدالة للبشرية، واحترام حقوق الإنسان، وصيانة حرياته الشخصية، وحماية حرماته من الاعتداء، والترهيب، أو التخويف، أو التهديد، أو الاتهام بالتكفير، أو العلمنة، أو الليبرالية من مفهومهم المشوش عنها، وما شابه ذلك من مرادفات تستهدف ديانة الإنسان ومذاهبه، أو شخصه بالقذف، أو الشتم، أو الاستهزاء، أو التجريح. ولأن الإسلام منذ ظهوره أكّد فكرة التعايش السلمي بين جميع الطوائف المختلفة دينياً، فقد طبقها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أحسن صورها عندما عقد معاهدة مع اليهود الذين كانوا يعيشون معه في المدينة جنباً إلى جنب، لتنظيم المجتمع المدني الذي هو خليط من المسلمين واليهود والمشركين، وبذالك فإن الآخر المختلف موجود، ومقبول في المجتمع الإسلامي منذ هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ولكن الانفتاح الإسلامي في ذالك الوقت كان أكثر وعياً، وأكثر شمولية، وانسجاماً مما هو عليه الآن، والعيب ليس في الدين إنما هو ممنهجاً ومرسوماً بالعقول، خاصة أولئك الذين طوعوه لتشددهم، وتطرفهم ليظهروه بمظهر الدين المخيف المرعب الذي يسفك دماء الآخرين الأبرياء ويقتلهم، ومن هنا ظهر تطرفاً مشابهاً من جانب الآخر. ومن عاش فترة ما قبل 1400ه والفترة التي تلتها إلى الآن سيجد الفرق الواضح في المملكة ما بين ظهور المتشددين وقبلها، لأن بعض الجيل الحاضر، تشبع بكل أساليبهم، فحللوا، وحرّموا، وخرجوا على العلماء الأفاضل بل وهاجموهم، ثم زيفوا الحقائق الدينية ومزجوها بأهدافهم الخاصة لتحقيق أغراض غامضة، خدموها «لوجستياً وبراغماتياً»، وبدأوا بنشرها جهراً، وبكل الوسائل الممكنة، ولم تجد الفكر المضاد الذي يتصدى لهم بسبب وجود بعض القوى الدينية «المتشددة» مناصرة لهم، وكانوا يبررونها على أنها صحوة، وحماسة خاصة بعد أن ظهرت أحداث أفغانستان فتمادوا في الدعم، والمساندة حتى حورب الفكر المضاد وأقصي، بل وتبنى العامة الجهلة تلك المبادئ وظهرت في أشكالهم وملامحهم وأهوائهم، فجاءت الكارثة بالقتل، والتخريب بل ومحاولة هدم كيان هذا الوطن الجميل، وبدأ هذا الفكر «المسرطن» ينتشر عن طريق وسائل الإعلام الحديثة، خاصة الانترنت، فانتشرت الأفكار، ووجدت لها صدى في الداخل والخارج، حتى استشرى خطرها، ومع قضاء الضربات الأمنية العسكرية على هذه المجموعات ونجاحها من وزارة الداخلية وقطاعات الأمن الأخرى قّل الخطر التخريبى، لكن الفكر ما زال، وحين يتصدى النائب الثاني وزير الداخلية الأمير نايف بن عبدالعزيز لهذا الموضوع، بل ويتبنى وضع استراتيجية للأمن الفكري، بوضع كرسي للأمن الفكري في جامعة الملك سعود، الذي ترأس مؤتمره الأسبوع الماضي، فمعنى هذا أننا عرفنا موطن الخلل، وبأننا نقبض عليه بعقولنا وأيدينا، وحين تعمم هذه الاستراتيجية لتكون أهدافها في المناهج، في المدارس والجامعات والمؤسسات، سيكون أثرها كبيراً في تأسيس فكر سليم، فلا إفراط ولا تفريط. فنحن نريد لحرية الثقافة أمناً، ولسلامة التعليم أمناً، وللحرية الاقتصادية أمناً، وللحرية الصحافية أمناً، ولحرية المجتمع أمناً، ولحرية الفنون أمناً، ولحرية الإبداع أمناً، وفي كل الجوانب، لكي يبدع إنسان هذا الوطن، ويبتكر لرفعته وحضارته فالحضارة وليدة الأمن. والأمن وليد الفكر السليم، والمساندة الإعلامية ضرورة لهذا الهدف النبيل، المشترك. [email protected]