ييا لبؤس حالنا نحن السودانيين! تضع حرب أوزارها في بلادنا لتمهد لتقسيمها. تندلع حرب أخرى لتزيد أوار نعرة التقسيم والتفتت. مصير لم يصنعه السودانيون الطيبون، بل هو من صنع فصيل حمى الله منه أمة العرب والمسلمين، وشاءت إرادته أن تتبدى فظائعه وفضائحه أمام العالم كله. حتى أن غالبية البسطاء والمتعلمين من أبناء السودان لا يزال يراودهم الأمل في أن تنجلي غُمّة الاستفتاء وما سيتلوها لتبقى وحدة البلاد سالمة من الشروخ. لن يصدق كثيرون منهم أن النهايات القانونية والمنطقية والدستورية ستقود بعد شهرين فحسب إلى تقسيم السودان، وأن السابقة السياسية يمكن أن تكتسب نفوذ السابقة القضائية، حجيَّةً وإلزاماً. فإذا كان جنوب السودان سيذهب إلى الاستقلال، فلماذا لا يكون من حق متمردي دارفور رفع راية حق تقرير المصير؟ ولماذا لا يكون هو حق قبائل الشرق؟ وإذا كان تفتيت السودان هماً ثقيلاً على قلوب السودانيين الطيبين وعقولهم، فليس من شكٍ في أنه أكبر إنجازات مخطط الإسلام السياسي الذي نفّر الشماليين فانطلقوا مهاجرين في أرض الله الواسعة، وبث الرعب في قلوب الجنوبيين من شدة فظائع الحرب الأهلية التي تم تديينها بداعي الجهاد والأسلمة. وهو إنجاز يستحق أن ينال ميداليته العقل المدبر للنظام والمنظَّر لفكر الإسلام المسيّس الشيخ الدكتور حسن الترابي. ما أقل حيلة السودانيين الطيبين أمثالي. ليس بيدنا شيء. تضافر علينا لؤم الإسلاميين الحربائيين وخداع الحركة الشعبية لتحرير السودان ليقتسموا بلادنا العزيزة غنيمة، ينهبون خيراتها بلا حدود ولا رقيب. ماذا عسانا فاعلون؟ الإسلاميون ظلوا يغيّرون جلودهم مع كل أكذوبة يطلقونها للتشويش على أذهان العوام. والحركة الشعبية ظلت تخاتل وتناور بشعاراتها التي تغيّرها كل بضع سنوات، بحسب تيارات النفوذ العالمي، فقد ارتدت لبوس الشيوعية الحمراء غداة تمردها، بل أرسلت مقاتليها إلى كوبا، ثم انقلبت على عقيدتها لترتمي في أحضان اليمين الغربي، ومن فكرة «تحرير السودان» إلى وهم «السودان الجديد»، ولما وجدت نفسها الحاكم الأوحد والأقوى للجنوب لفظت كل شعارات الوحدة، وانكفأت على خيار الانفصال. ماذا عسانا فاعلون؟ لا شيء... هكذا يتصور جلاوزة محفل الإنقاذ الوطني في الخرطوم أن تقسيم السودان سيخلَّد سلطتهم على الشمال، لن يضيرهم لو ذهبت منه دارفور. ستكون الوسيلة الأكبر لتسليتهم الحروب الأهلية التي ستشعلها شرارة الانفصال التي أوقدوها. حين يكتمل الانفصال، وتتوالى اعترافات دول العالم بدويلة شريعة الإسلام المسيّس، ودويلة الجنوب التي ستحظى بالدعم، وتُدجج بالسلاح، وسلطنة دارفور العائدة بقوة، سيتخلى مدبر هذا التشظي الجهنمي الدكتور حسن الترابي عن ابتسامته الصفراء ليقهقه. أما آن له أن يفعل وقد حقق أكبر إنجازاته: هدم السودان على رؤوس ساكنيه، ليس لسبب سوى غل غائر وحقد دفين على البيتين الكبيرين اللذين لم يتيحا له فرصة بناء نفسه بيتاً ثالثاً أقوى. كيف فات على هذا الشيخ الموسوم بالدهاء والذكاء الخارق أن تكون خطته البديلة في حال تهديد دولته العظمى المنسوبة للإسلام المسيّس أن تنهدَّ الدولة والوطن على طريقة عليّ وعلى أعدائي وإخواني؟ كيف سمح لفكره المتمدد في شرايين تلاميذه الذين عقّوه ونحروه وأذاقوه مرارة السجن والتكميم أن يقبل أصلاً ما يسمى بهتاناً «اتفاق السلام الشامل 2005»؟ كل مادة في الاتفاق هدفها تفكيك النظام وإضعاف شوكة الإسلام المسيس «والمعتدل»، ولو كان أحد السكان رمى إبرة في كوم قش لرآها عسس الأمن الوطني الذين ظلموا وطغوا وتكبروا وأزهقوا الأنفس. سيقول «الشيخ» الدكتور إنه كان خارج تقاطعات السلطة حين وقع الاتفاق في كينيا العام 2005. وسيحاول بابتساماته الماكرة ولغته المثيرة للارتباك التي يحاول تلاميذه العاقون محاكاتها أن يقول إن ما سمته جماعة محفله «مفاصلة» كانت قطيعة بائنة مع المنكر الذي صنعه بيديه وعقله وبنات أفكاره. لكنه سيكون بحاجة إلى استيراد شعب سوداني جديد ليصدقه. هنيئاً للشيخ الدكتور الذي نجح بذكاء وعقل خارق أن ينقل بشاعة سقوط يوغوسلافيا السابقة والاتحاد السوفياتي وانقسام تشيكوسلوفاكيا إلى العالم العربي والإسلامي والأفريقي... كأن المنطقة لا يكفيها ما هي فيه من فظائع يرتكبها أشباه الترابي. هل يريد الترابي وعياله هدم معبد الوحدة والتناغم والمستقبل على رؤوس من هم داخله على امتداد مليون ميل مربع للانتقام من الضغوط الخارجية التي لم يستطيعوا مقاومتها وجعلتهم يقبلون في ذلة وخضوع التوقيع على اتفاق يرغم حكومة محفلهم المُريب على أن تعيش في عاصمة ينص الاتفاق على أن تعاني عمى ألوان عقائدياً، وتمنح الجنوب نصف الثروة، وترفع يد الشمال نهائياً عن حكم الجنوب لمدة خمس سنوات، يحق له بعدها أن ينفصل عن الشمال. ألم يكن تلاميذ الترابي يعلمون هوية الناخبين الذين سيمنحون حق التصويت في استفتاء كانون الثاني (يناير) 2011؟ ألا يعرفون سلفاً أن الناخبين هم الجيل الذي حاربه محفل الإنقاذ، وأبادوا إخوتهم وأهاليهم؟ إن الغبن من الترابي ليس ألماً خرافياً للسودانيين وحدهم. يجب أن يتبين العرب الضرر الذي سيفتح باب اختراق جديد ضد أمنهم القومي بسبب الانفصال. ويجب أن يعرف المسلمون أن الدولة الجنوبية المقبلة ستكون جداراً عازلاً بين الإسلام وأفريقيا، وبين العرب وأفريقيا. وإذا كان الترابي ذاهباً – في ما بلغنا – للتطبب في فرنسا، فنرجو له الشفاء ليعود لإكمال مهمته الآتية: الإجهاز على ما سيبقى من وحدة السودان. وقطعاً ستكون أسهل. إذ ما أسهل أن تهدم يا شيخ. وما أصعب أن تبني. • صحافي من أسرة «الحياة». [email protected]