لو ألقى علي موسي محمود، رئيس خدمات الإسعاف في العاصمة الصومالية، مقديشو، السمع لما يقوله الأصدقاء والأقارب لمات آلاف الجرحى الصوماليين من نزف الدم ولتعفنت جثث كثير من الأبرياء الذين يسقطون ضحية القتال شبه اليومي في شوارع العاصمة المضطربة. بيد أن محمود مولع - أقاربه يقولون لحد الجنون - بإنقاذ من يمكن إنقاذه من جرحى القصف المتبادل بين مسلحي الحركات الإسلامية وقوات حفظ السلام الأفريقية التي تساند الحكومة الصومالية في مدينة عانت من ويلات الحروب الأهلية والتدخلات الأجنبية منذ ما يقارب عقدين من الزمن. أصدقاء محمود وأقاربه ينصحونه بعدم إهمال أموره الخاصة، وتحديداً أطفاله الستة وزوجتاه الذين زهد عنهم في منطقة بإحدى ضواحي مقديشو التي نزح عشرات الآلاف من سكانها بعد اشتداد الحرب بين القوات الإثيوبية والمسلحين الصوماليين منذ العام 2007. ويقول محمود إن أكثر ما يؤلمه في عمله ليس الضرر الذي يلحق به شخصياً، مثل قلة النوم والتعب الدائم أو غيابه عن أهله، بل عدم وجود تعاطف ودعم حقيقيين من إخوانه العرب والمسلمين في العالم. ويقول محمود في مقابلة مع «الحياة» عبر الهاتف من مقديشو: «أحزن عندما أجيء إلى مصاب وأجده قد فارق الحياة، أو أرى أن إصابته خطرة جداً»، مضيفاً: «أفرح إذا نقلت جريحاً إلى المستشفى واستطاع الأطباء إنقاذه. يغمرني الفرح إذا رأيت مصاباً نقلته إلى المستشفى وقد تعافى». يتساءل محمود وصوته يهتز: «ألسنا جزءاً من العرب؟ لماذا يفكّر فينا إخواننا العرب والمسلمون في وقت محنتنا؟ لماذا لا يهب ضمير العروبة والإسلام لنجدة إخوانهم الصوماليين من معاناتهم؟». ويقول محمود إن مناشدته العرب والمسلمين ما هي إلا محاولة جادة لإنقاذ الخدمة الوحيدة التي تنقل مصابي الحرب الجارية في العاصمة إلى المستشفيات «لأنها فعلاً تحتاح إلى دعم حقيقي. فالحرب مستمرة والحاجة (إلى خدمة الإسعاف) مستمرة. وقدمت شركة «نيشن لينكي» التي تموّل إسعافات العاصمة تضحيات مالية في سبيل الخدمة. إنها فعلت أكثر من طاقتها». وكانت مؤسسات الصحة في الصومال قد تحوّلت إلى أطلال منذ عام 1991 عندما أطاح أمراء حرب آخر حكومة مركزية صومالية، الأمر الذي حوّل هذا البلد العربي الواقع في القرن الأفريقي إلى مناطق ذات إدارات مستقلة وأراضٍ يسيطر عليها الإسلاميون بينما تقبع إلإدارة التي يساندها المجتمع الدولي في جيوب محدودة من العاصمة، مقديشو، وبمساعدة أكثر من سبعة آلاف جندي من أوغندا وبوروندي. وتنشغل هذه الحكومة الصومالية الهشة - التي تم تأسيسها في كينيا المجاورة في عام 2004 - بمحاربة الإسلاميين الذين ابتلعوا جل مناطق وسط البلاد وجنوبها بما في ذلك أجزاء واسعة من العاصمة. ولا تقدر هذه الإدارة، التي يقودها الإسلامي المعتدل شيخ شريف شيخ أحمد، على توفير معظم الخدمات الأساسية للمواطنين البسطاء الذين لا يطيقون تكاليف الحياة المكلفة في بلدهم، فضلاً عن طلب التطبب في مستشفيات خاصة في مدينة يوجد فيها نزر قليل من المستشفيات التي تدعمها الهيئات العالمية. وقبل إنشاء إسعافات المدينة في عام 2007، فإن سكان العاصمة كانوا ينقلون جرحى الاشتباكات شبه اليومية في مقديشو بأدوات بدائية مثل العربات التي تُجرّ باليد. ويصل المبلغ الشهري الذي تدفعه شركة الاتصالات «نيشن لينكي» لخدمة الإسعافات إلى ما يزيد بقليل على ستة آلاف دولار أميركي تُنفق في صرف رواتب قرابة 30 شخصاً ليس منهم ممرض واحد. كما تصرف في وقود السيارات التي تتعطل بعض الأحيان بسبب سوء أحوال الطرق في العاصمة. ويقول محمود: «إذا لم يتحرك المحسنون في العالم فإن الخدمة ستتوقف. لا تستطيع شركة محلية أن تتكفل بذلك المبلغ باستمرار». ويبدو أن الواقع يشير إلى أيام مريعة كالتي يحذّر محمود من وقوعها. إذ كانت كل سيارة توظف أربعة أشخاص في بداية الخدمة قبل ثلاثة أعوام، وهم سائق ومساعده وممرضتان. لكن الآن لم يبق سوى سائقين فقط لأنه، كما يقول محمود، «ليس هناك مال كاف لتوظيف ممرضة واحدة». ويقول محمود: «إن كل يوم أسوأ من الذي قبله»، مضيفاً: «هناك أيام لا أجد وقتاً لزيارة دورة المياه. لأنه كلما هممت بالدخول إليها يرن هاتفي النقال ليبلغني شخص عن مصاب ما في مكان ما جُرح أو قُتل بالعاصمة». ويزيد محمود أن مهمة سائقي سيارات الإسعاف السبعة التي تخدم أكثر من مليون شخص من سكان العاصمة الصومالية تنحصر في نقل المصابين والموتى إلى المستشفيات - لا غير. فهم غير مدربين حتى على طريقة نقل الجرحى أو تقديم الإسعافات الأولية. إنهم يحملونهم على النقالة ثم يفرغونهم في قاع السيارات. ويقول محمود «إن أقاربي ينصحونني بالتوقف عما أنا فيه قبل أن أُجن. ولكنني سأستمر فيه حتى يتغيّر الوضع أو تأتي حكومة صومالية تتسلم المهمة مني. لا أطيق الجلوس عندما يكون في إمكاني إنقاذ أرواح زكية من أبناء جلدتي».