الكرة في ملعب واشنطن. هي لم تخرج أصلاً من ملعبها بعدما ارتضت أن تكون وحدها الراعي لجولة المفاوضات الجديدة المباشرة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. لجنة المبادرة العربية طلبت من الجانب الأميركي «الاستمرار في جهوده لإعادة العملية السلمية إلى مسارها الصحيح وعلى رأسها وقف الاستيطان». وأمهلته شهراً ستلجأ بعده إلى تحديد الخيارات البديلة لإقامة الدولة الفلسطينية، وهي، كما عبر عنها رئيس السلطة: «الحصول على اعتراف من الإدارة الاميركية بدولة فلسطينية في حدود العام 1967، أو اللجوء إلى مجلس الأمن للهدف نفسه، أو إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لوضع الأراضي الفلسطينية تحت الوصاية الدولية». الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية فيليب كراولي ثمّن بيان اللجنة. ووعد بمواصلة «العمل مع الأطراف ومع شركائنا الدوليين لدفع المفاوضات إلى الأمام من أجل التوصل إلى حل الدولتين وتشجيع الطرفين على اتخاذ تدابير بناءة لهذه الغاية». وقبل ذلك كان بنيامين نتانياهو دعا شريكه «أبو مازن» إلى مواصلة التفاوض، وإن في ظل استئناف بناء المستوطنات! هناك إذاً رغبات ثلاث معلنة في استئناف المفاوضات هي تعبير واضح عن مآزق، وإن كانت رغبة رئيس الوزراء الإسرائيلي هدفها إلقاء اللوم على الشريك الفلسطيني للتخفيف من وطأة الإجماع الدولي الذي يرى إلى العقدة وحلها في تل أبيب وحدها. مآزق ثلاثة تبدو مستعصية لأن البدائل من فشل المفاوضات عصية هي الأخرى ومصيرية. لذلك لجأت الأطراف الثلاثة إلى شراء الوقت لعله يبعد كأس البدائل. إدارة الرئيس باراك أوباما تحتاج إلى الحديث عن المفاوضات، وإن معلقة، إلى حين اجتياز استحقاق الانتخابات النصفية للكونغرس الشهر المقبل. تحتاج إلى تحقيق اختراق في المنطقة، أو نصف إنجاز، ما دامت عجزت حتى الآن عن التقدم في أفغانستان، وعن الحد من غلبة إيران الواضحة في القرار العراقي في تأليف الحكومة الجديدة. ولا شيء يوحي بأنها ستنجح في دفع تل أبيب إلى معاودة تجميد الاستيطان، إلا إذا بدت مستعدة لدفع ثمن يتجاوز ما عرضته حتى الآن على نتانياهو. وسيكون هذا الثمن من حساب فلسطين بالتأكيد. الجانب العربي لا يتوقع أن تمارس واشنطن ضغوطاً على الحكومة الاسرائيلية. الوزير العماني المسؤول عن الشؤون الخارجية يوسف بن علوي عبد الله استبعد صراحة إمكان ذلك، عشية قمة سرت. فلو كان هذا الضغط ممكناً أو متوافراً لأوباما لما كانت هناك عقبة حالياً ولما كانت المفاوضات توقفت. بل إن مناشدات المجتمع الدولي كله لم تحرك في نتانياهو ساكناً. وإذا استجابت الإدارة الأميركية لما يطالب به زعيم ليكود علناً وخطياً بخصوص مستقبل المستوطنات في الضفة الغربية تكون واشنطن أقرت سلفاً بالحدود الاسرائيلية للدولة الفلسطينية من دون اعتبار للموقف الفسطيني. كما أن منح واشنطن تل أبيب مزيداً من الضمانات والامتيازات سيجعل مهمة المفاوض الفلسطيني صعبة وعصية لأنه سيكون محكوماً بسقف هذه الالتزامات والضمانات، وليس أقلها معارضة إعلان دولة فلسطين من جانب واحد سواء في مجلس الأمن أو في الأممالمتحدة. أي أن البدائل العربية التي تلوح بها لجنة المبادرة ستصطدم بالفيتو الأميركي، وربما غير الأميركي أيضاً. نتانياهو هو الآخر يواجه مأزقاً دائماً بوجود شريكه في الحكومة أفغيدور ليبرمان. لا يبدو مستعداً لاستجابة المناشدات الدولية لوقف الاستيطان. وهو موقف نابع أصلاً من رفضه لأي تسوية، وإن تلطى خلف مواقف شريكه زعيم «إسرائيل بيتنا». فعندما ألقى الأخير خطابه أمام الجمعية العامة اكتفى بالقول إن ما عبّر عنه وزير خارجيته إنما يعبّر عن رأيه وليس عن سياسة الحكومة. ما جعله هدفاً لبعض الإعلام الاسرائيلي الذي اتهمه بالجبن والخوف، وإلا كان لجأ إلى إخراجه من الحكومة بالتفاهم مع «كاديما». ولكن حتى مثل هذا الحل لا يضمن له تماسك «ليكود» فيما المجتمع الاسرائيلي يجنح نحو أقصى اليمين. وتجربة خروج آرييل شارون من التكتل لا تزال ماثلة. ويخشى أن يؤول قصب السبق في أي انتخابات عامة مبكرة إلى حزب ليبرمان. وأياً كانت حقيقة موقف نتانياهو، فإن التبريرات التي تساق لتبرير «المأزق الحكومي» الذي يواجهه ومحاولة الحد من العزلة الدولية سمحت له بالتحرك في ثلاثة محاور: أولها طلب المزيد من الضمانات والتعهدات السياسية والأمنية والعسكرية الأميركية. ثانيها مواصلة سياسة الاستيطان التي ستأكل مزيداً من أرض الضفة الغربية... ومزيداً من الرصيد الباقي لرئيس السلطة الفلسطينية. وثالثها العمل الدؤوب لاستكمال تشريع «اسرائيل دولة يهودية»، أي تغيير دستور الدولة وقوننتها «دولة عنصرية فاشية مناهضة للديموقراطية» بلا قناع هذه المرة، وحرمان الأقلية العربية (عرب 1948) من التعبير عن رأيها المخالف للأكثرية اليهودية تمهيداً لدفعها خارج حدود هذه الدولة التي يجب أن تحافظ على «نقائها». أي أن نتانياهو بحجة السعي إلى مواجهة خصومه من اليمين المتطرف يسبقهم في الطريق إلى أهدافهم! حتى أن بعض الدوائر الاسرائيلية وصف الدورة الأخيرة للكنيست بأنها تميزت ب «أجواء قاسية وبانعدام التسامح تجاه الأعضاء العرب». أما الجانب الفلسطيني - ومعه الجانب العربي - فيواجه هو الآخر مأزقاًً لا يحسد عليه. فهو أمام خيارات أحلاها مرٌّ. الرئيس محمود عباس لن يجازف بانتفاضة ثالثة تنتهي بما انتهت إليه سابقتها. بل هو لا يريد زعزعة الحد الأدنى من الاستقرار لئلا يقوض ما بنته حكومته من مؤسسات ستكون جاهزة لإدارة الدولة الموعودة. كما أنه عارض ويعارض العودة إلى أي نوع من أنواع المقاومة المسلحة، كما تدعو حركة «حماس» وشقيقاتها. فضلاً عن أنه لا يريد أن يجازف بخسارة الموقف الأميركي والاجماع الدولي الذي يقف إلى جانبه في ربط مواصلة المفاوضات بتجميد الاستيطان. لذلك لم يجد رئيس السلطة - ومعه لجنة المبادرة العربية - بديلاً من اللجوء إلى «الوقت»، وبديلاً من التعويل على واشنطن، على رغم شكوكه في أن هذه لن تمارس ضغوطاً على إسرائيل أكثر مما فعلت حتى الآن... إلا إذا كانت تأمل فعلاً بأن أوباما سيكون أكثر تحرراً بعد الانتخابات النصفية من تأثير «اللوبي» اليهودي أياً كانت نتائج هذه الانتخابات. في أي حال ليس أمام «أبو مازن»، ومعه الجامعة العربية، أي خيار واقعي يرغم إسرائيل على وقف الاستيطان، أو يرغم واشنطن على ممارسة مزيد من الضغوط على حكومة نتانياهو. حتى السير في خيار الرافضين التفاوض لن يؤدي إلى وقف الاستيطان، كما انه لن يؤدي إلى الحرب التي لا يريدها أحد، بقدر ما يعني تقديم «عرب الاعتدال» هدية كبيرة إلى «حلف الممانعة» وما يعني ذلك من تعزيز مواقع الجمهورية الاسلامية الإيرانية على حساب ما بقي من «النظام العربي». أما البدائل التي تحدث عنها «ابو مازن» لإقامة الدولة الفلسطينية، إذا فشلت المفاوضات، فتظل أسهل الخيارات المطروحة. وحتى هذه لن تكون متيسرة ما لم يتم التنسيق في شأنها مع الدول الكبرى وعلى رأسها الولاياتالمتحدة. من هنا جاء الموقف العربي في مراعاة رغبة واشنطن في منحها مزيداً من الوقت. حتى إذا فشلت المساعي في العودة إلى طاولة المفاوضات يكون من السهل إقناع العرب الإدارةَ الأميركية بحمل قضية الدولة الفلسطينية إلى مجلس الأمن أو الأممالمتحدة، وتأييد إعلانها من طرف واحد. يبقى أن فشل كل هذه البدائل لا يطرح فقط عدم جدوى بقاء السلطة الفلسطينية كما قال «أبو مازن»، بل يطرح أيضاً مستقبل الدور العربي في كل ما يرسم للمنطقة، من العراق إلى جنوب السودان مروراً باليمن، ومروراً بلبنان الذي يستعد لاستقبال الرئيس الإيراني في ظروف داخلية وإقليمية قد تدفع هذا البلد إلى منعطف مصيري تاريخي. فيما ميزان القوى الاقليمي ينذر بحاجة أكثر من بلد عربي إلى إدارة خارجية لشؤونه الداخلية! لا توحي البدائل المتداولة بإمكان الخروج من المآزق، إذا كان المعنيون بالمفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية أسرى هواجس تتقدم على مصير المفاوضات: الرئيس أوباما الخائف من «اللوبي» اليهودي وضغوط الجمهوريين وخسارة أفغانستان بعد العراق، ونتانياهو الذي تحركه الرغبة في عدم التنكر لماضيه الرافض لأي اتفاق أو تسوية بقدر ما يحركه الخوف من ليبرمان، و «أبو مازن» الذي لا يرى مستقبلاً لسلطته في ظل الضعف العربي وتقدم الممانعين في عقر داره كما على حدود الدار.