بعد تسع سنوات من التورط في أفغانستان، أدركت الولاياتالمتحدة ما خبره المحتلون السابقون لهذا البلد، بدءاً من البريطانيين في القرن التاسع عشر وانتهاء بالسوفيات في القرن العشرين، إذا لم نشأ العودة إلى أيام الإسكندر المقدوني: الانتصار مستحيل في هذا البلد. من هنا كان قرار الرئيس باراك أوباما بدء سحب قواته في تموز (يوليو) المقبل. والتمهيد لذلك بزيادة القوات وبدء الاتصال بحركة «طالبان» أو بأحد أجنحتها لضمان انسحاب «مشرّف» والمحافظة على حميد كارزاي أو غيره من الموالين لواشنطن في سدة الحكم. اختارت الإدارة الأميركية جلال الدين حقاني لبدء محادثاتها مع «طالبان». الرجل معروف بأنه أكثر قادة هذه الحركة تطرفاً وقوة. واشنطن تعرفه جيداً. كان حليفها القوي خلال الاحتلال السوفياتي. وكانت تعتبره بطل التحرير في تلك المرحلة. وله الفضل في وصول حركة «طالبان» إلى السلطة عام 1996، بدعم من الاستخبارات الباكستانية التي عرضت عليه تسلم الحكم في كابول، بعد «غزوات» نيويوركوواشنطن في 11 أيلول، لكنه رفض لأسباب كثيرة، منها التزامه مع «طالبان» وزعيمها الملا عمر. وصداقته لأسامة بن لادن. وعدم رغبته في أن يواجه القبائل الأفغانية، خصوصاً قبيلة البشتون التي ينتمي إليها معظم قادة الحركة. أول الشروط الأميركية للمصالحة مع «طالبان» سيكون تخليها عن «القاعدة»، أي فصل المقاتلين الأجانب عن حماتهم ليسهل القضاء عليهم. تماماً مثل الشرط الذي أملته على المقاومة العراقية قبل أن تشكل منها قوات «صحوة» حاربت التنظيم وطردته من مناطقها. لن تكون المفاوضات الأميركية مع حقاني بالسهولة التي يتصورها الأميركيون. لكن لا بديل منها لحصر الخسائر العسكرية والمالية، وتحضير الأجواء لإعطاء دور لباكستان المتهمة حتى الآن بدعم «طالبان»، إذا أريد للمحادثات أن تنجح. وهذا ما يفسر التوتر في العلاقات بين إسلام آباد وواشنطن في هذه المرحلة. أدرك الأميركيون، بعد سنوات الجنون الخمس الماضية، أنهم لن يستطيعوا فرض إرادتهم على العالم بقوة السلاح فبدأوا الانكفاء من «الشرق الأوسط الكبير». لكن المشكلة أنهم يخلفون وراءهم حكومات وأنظمة أقل ما يقال فيها أنها متخلفة وفاسدة، تعتمد في بقائها عليهم وعلى أنصارها في الداخل. أنصار لم يدركوا بعد أن عصر بوش انتهى. هذا ما يحصل في العراق. سيغادره الأميركيون، مخلفين وراءهم نظاماً ينخره الفساد، وتتصارع فيه وعليه طوائف ومذاهب وأعراق. كلها يسعى إلى زيادة حصته في السلطة والثروة. وهذا ما سيخلفونه في أفغانستان، حيث القبائل تنتظر الفرصة للانقضاض على الحكم. وهذا ما يسعون إليه في أي بلد يجدون فيه مناصرين، من دون أن يحتلوه. قريباً ستصبح «طالبان» شريكاً في الحكم في أفغانستان. ستحظى بدعم المانحين، وبركة واشنطن، وتتحول في نظرها، من حركة ظلامية إلى حركة ديموقراطية تقدمية قد تساعدها في محاصرة «الشيطان» الإيراني. وإلى الجحيم حقوق الإنسان.