الانتحار. إنه الترسيمة التي اختيرت لليوم العالمي للصحة النفسية في العاشر من الجاري. الانتحار؟ يفتقد العالم العربي عموماً لأرقام موثوقة عن الانتحار، الذي ترفضه الأديان التوحيدية، وهي التي تتقاطع مهودها في دنيا العرب. وفي مقابل غياب الارقام والمعلومات عربياً، ثمة حضور لإنتحار مقيت. إذ يُنظر عالمياً الى جغرافيا العربية باعتباره منبعاً لإنتحار من نوع لا يكتفي مرتكبه بالخروج من الحياة، بل يزهق أرواحاً ويسفك دماءاً وينشر رعباً وإرهاباً. ربما لم تفكر "منظمة الصحة العالمية" كثيراً في هذا النوع من الإنتحار حين اختارت شعاراً لهذا اليوم "التوعية - تقليل المخاطر: الأمراض النفسية والإنتحار". والمعلوم ان العالم يلاحظ هذا اليوم منذ العام 1996، بأثر من مبادرة قادها "الاتحاد العالمي للصحة النفسية". وتظهر أحدث إحصاءات "منطمة الصحة العالمية" ان ما يزيد على 154 مليون شخص يعانون اضطرابات نفسية وعقلية موصوفة. وتتفاوت نسب الانتحار عالمياً بحسب المناطق الجغرافية، وكذلك مع المتغيّرات في الاقتصاد والسياسة والثقافة. وراهناً، تقدر نسبة الانتحار ب13 لكل مئة ألف في روسيا وأوروبا الشرقية ومعظم أوروبا الغربية. وتنخفض النسبة لتتراوح بين 12 و 6 في المئة، في دول أوروبية مثل البرتغال واسبانيا، إضافة الى استراليا والهند والأرجنتين وأميركا الشمالية. وتنخفص إلى أقل من 6.5 في المئة في معظم أميركا الجنوبية والوسطى وإيران واليابان والكوريتين. في الولاياتالمتحدة، يُقدّر ان نسبة الإنتحار سنوياً هي 11.3 في مئة ألف نسمة، مع ملاحظة حدوث 11 محاولة انتحار، مقابل كل وفاة بتلك الطريقة! وتشير الإحصاءات الأميركية الى أن تسعين في المئة من المنتحرين يعانون من كآبة مرضية. وللتوضيح، لا يعني ذلك بالضرورة ان الانتحار مرتبط بالإكتئاب، نظراً لشيوع الكآبة المرضية، التي توصف أحياناً بأنها أنفلونزا الأمراض النفسية. على رغم هذه الأرقام، لا يبالي العالم العربي بالمرض النفسي، بل لا يعترف به عموماً. ويعاني المرضى النفسيون من وصمة ثقيلة من التمييز ضدهم، لأن الثقافة السائدة لا تعترف بالمرض النفسي، بالمعنى العلمي، ولا تضعه على قدم المساواة مع أمراض الجسد. ويكفي إلقاء نظرة على الطريقة التي يتناول الإعلام المرئي- المسموع الإضطراب النفسي عربياً، للتعرف الى مدى التشويه الواسع لمفهوم المرض النفسي في الثقافة العربية السائدة. وعلمياً، ينظر حاضراً إلى المرض النفسي باعتباره ناجماً من مركب جسد واجتماعي ونفسي. ويعاني "جسد" العالم العربي من إضطرابات جمة ناجمة عن قلة الماء فيه، خصوصاً مع تصاعد الضغوط على الممرات المائية الكبرى فيه مثل النيل ودجلة والفرات. ويتهدد التفكك إجتماعه بوضوح في السودان وفلسطين والعراق واليمن، إضافة إلى "شروخ" مؤلمة في لبنان مثلاً، وربما وُجِدت شروخ كامنة في غير بلد عربي أيضاً! ولا أدل على تأزمه نفسياً من مستوى الخطاب والنقاش العام، ثقافياً وسياسياً. وفي هذا المعنى، ليس من المستغرب أن تنج هذه الحال المأزومة منتحرين، لا يهمّ عددهم، لكنهم قتلوا العرب، فكرة وصورة، في العالم، إضافة الى ما فتكوا به من أرواح إنسانية، داخل جغرافيا العرب وخارجها! وللكلام بقية وأكثر.