عندما أقدم ذاك الفتى الإسرائيلي المتطرف، قبل أعوام، على اغتيال إسحاق رابين، لدوره في عملية السلام مع الفلسطينيين، كان ذلك تعبيراً عن انقسام إسرائيل إلى معسكرين متناحرين ما زالا قائمين، حيث ينمو المعسكر المتشدد وينال أصوات الناخبين الإسرائيليين في شكل لافت، تمثله حكومة نتانياهو التي وزير خارجيتها أفيغدور ليبرمان الذي أفادنا جهاد الخازن – صادقاً – أنه كان حارس مواخير في مولدافيا! ولا بد من القول إن رابين لم يكن حمامة سلام. فهو جنرال مقاتل في الجيش الإسرائيلي، قاتل الفلسطينيين والعرب حتى الرمق الأخير. لكنه استنتج بعد طول قتال، أن «الحل العسكري» لن يؤمّن لإسرائيل مستقبلها ولا بد من «حل سياسي». لذلك مد يده - بعد لأي - في حديقة البيت الأبيض إلى اليد الممدودة بالسلام والتعايش، إلى ياسر عرفات، الذي ناضل هو أيضاً، على الطرف المقابل، من أجل فلسطين، واكتشف – مثل إسحاق رابين – أن الصراع لا بد من أن يصل إلى «حل سياسي» بين الطرفين، وأن لا مفر من قبول «التعايش» المفروض بالقوة ولو ذهب أكثر من نصف الوطن الفلسطيني، بل إن ياسر عرفات أعلن أنه سيقبل بإقامة دولة فلسطينية ولو على «شبر واحد» من فلسطين، إذا اقتضى الأمر. إن تأكيد الوجود الفلسطيني، في هذه المرحلة، أمر لا بد منه. وقد كانت إسرائيل تنكر وجود الفلسطينيين حتى وقت قريب. وفي فترة حرب تشرين الاول (أكتوبر) 1973، كانت غولدا مائير، رئيسة حكومة إسرائيل، تقول: أين الفلسطينيون؟... إنني لا أراهم! فها هم الآن ملء مسمع الدنيا وبصرها. ولم تستطع حتى «حماس» الفوز في الانتخابات بمنطقة غزة إلا بفضل «الحل السلمي» الذي سعى إليه أبو عمار ويسعى إليه اليوم أبو مازن ورجاله في بحر من المصاعب الفلسطينية والعربية والدولية. فمن المؤسف ومن سوء الحظ، أن هذا القائد الفلسطيني الأمين قد أتى في مرحلة تاريخية غير مرحلته، وأن اعتداله يقابل بتشدد إسرائيلي تمثله حكومة «منتخبة» في إسرائيل! في تقديري ان ثمة مشكلة يهودية – يهودية، أعني مشكلة اليهود مع أنفسهم، ومع تاريخهم وتراثهم ومع الآخرين من شعوب الأرض، قبل أن تكون ثمة مشكلة إسرائيلية – فلسطينية أو عربية... وقد قيل وكتب كثيراً عن «اليهودي الكاره لنفسه»، ولو أن سيغموند فرويد، مؤسس علم النفس التحليلي وأشهر المفكرين اليهود في العالم، جاء في قارب إلى غزة للمشاركة في فك الحصار الإسرائيلي عنها، لقامت سلطات الاحتلال الإسرائيلي باعتقاله ومحاكمته... هذا إذا لم تغرق قاربه أو تقتله! وعلى رغم وجود كتلة برلمانية موازية في الكنيست يمثلها أساساً حزب «كاديما» برئاسة تسيبي ليفني وزيرة خارجية إسرائيل في حكومة أولمرت السابقة، أعني التي سبقت حكومة نتانياهو، فإن هذه الكتلة التي يفترض أنها أقرب إلى مفهوم «السلام» صامتة صمت القبور ولم نسمع لها أي رأي في تلاعب اليمين المتطرف بمقدّرات السلام. هل تريد هذه الكتلة لحكومة اليمين المتطرف أن «تشنق» نفسها بنفسها من دون تدخل منها، أو أنه صمت انتخابي؟ وهذا خطير لأنه يدل على أن أكثرية الإسرائيليين صاروا لا يحبذون أي حل سلمي. إن «صمت» هذه الكتلة محير. فهل هو سكوت كعلامة رضا... أم... انه الهدوء الذي يسبق العاصفة؟ المهم أن «كاديما»وحلفاءها قد تسلحوا أمام هذه المفاوضات الليكودية العبثية المجاملة للرئيس أوباما بالحكمة القائلة: إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب... ويبدو أنهم اختاروا «الذهب» فأسعاره ترتفع هذه الأيام بمستويات قياسية! والحقيقة الظاهرة للعيان ان غالبية الإسرائيليين، صقوراً وحمائم، يتملكهم خوف شديد، ولا يأمنون لأحد. وهم يرون عالماً عربياً في طريق النهوض، بأفضل مما يراه العرب أنفسهم، ولا يأمنون من قادم الأيام حتى في ظل السلام! إن الإصرار على «يهودية إسرائيل»، وهي صفة رفضها حتى عتاة مؤيدي إسرائيل لدى إنشائها كالرئيس الأميركي ترومان، لا يرى غير هدف سياسي ضيق هو إخراج عرب 1948 مسلمين ومسيحيين من «أرض» إسرائيل... ورميهم في الضفة الغربية أو في الجانب العربي أياً كان... ولا يهم هؤلاء المنادين بيهودية إسرائيل ألا تبقى إسرائيل «الديموقراطية الأولى» في الشرق الأوسط، ففي أحسن حالاتها ستكون ديموقراطية عرقية ethnic-democracy أو ستكون أضحوكة بين أمم العالم في زمن العولمة. إن المطالبين بيهودية إسرائيل يسبحون ضد تيار المستقبل. فأمم العالم تتجه إلى مزيد من التعددية الدينية والثقافية وفي إسرائيل إصرار على «يهودية» الدولة وتأكيد لها. وبينما تتجه إسرائيل «الديموقراطية الأولى!» في الشرق الأوسط نحو ديموقراطية إثنية عرجاء، تتجه أبرز الدول العربية الناشطة – وهي المملكة العربية السعودية – إلى طرح حوار الأديان على مستوى عالمي والطموح لأن تكون «مملكة الإنسانية» بجهود ملكها المصلح عبدالله بن عبدالعزيز... فهل يرى عالمنا هذا الفرق! إن «إسرائيل الأخرى»... إسرائيل المسالمة والمتصالحة مع نفسها ومع الفلسطينيين والعرب تنمو ولكن ببطء... ومن المحال أن يستطيع الفلسطينيون الانتظار لسنوات أخرى تحت الاحتلال... وأخيراً أوقفت سلطات الاحتلال زورقاً لقلة من الناشطين الإسرائيليين يريدون السلام ورفع الحصار عن غزة. والذين يصرون على السلام من الجانب الفلسطيني والعربي يراهنون على ظهور إسرائيل «المسالمة» هذه ولكن ظهورها، وإن يكن من حتميات التاريخ، فسيأخذ وقتاً طويلاً... ويصعب على الفلسطينيين الانتظار أكثر مما انتظروا. وثمة اختلال في موازين القوة بين إسرائيل والعرب وتصحيح هذا الاختلال، من الجانب العربي، سيأخذ وقتاً طويلاً أيضاً، ولا يمكن تصحيحه بجيوب مقاومة هنا أو هناك. فقد وقع ما وقع. وعلى رغم «الانتصار» المعلن فقد بقيت إسرائيل مهيمنة، ولا نذكر حرباً عربية غيّرت موازين القوى القائمة في حينه غير حرب أكتوبر 1973 التي شارك فيها أساساً الجيشان المصري والسوري بالإضافة إلى قوات عربية أخرى لا يمكن إنكار دورها. إن حل الدولتين سيبقى هو «الحل». والحديث عن دولة واحدة مزدوجة القومية هو دعوة للفلسطينيين ليكونوا مواطنين من «الدرجة الثانية»! ولا خيار، في المدى المنظور، غير إعلان الدولة الفلسطينية – بجهد عربي ودولي في مجلس الأمن – والاعتراف بها مثلما أعلنت إسرائيل قيامها عام 1948... أما إلغاء السلطة الفلسطينية فعودة إلى الوراء ولا ينبغي التفكير فيه. * كاتب من البحرين