معلوم أن النطق عمل منعكس من أعمال النفس، كالصمت وغيره. فكما تجد من الناس من يقف من مشاهد الوجود الجمالية مدهوشاً مذهولاً، لا يطيق حركة ولا يحتمل صوتاً، تجد بخلافه من لا يستطيع السكوت عما يجيش به صدره، يريد أن يشرك به من حوله من حي وجماد. وفي ذلك تصوَّرْ راعياً يسوق نعامه في الخلاء وقد حيته ابتسامة الفجر أو ناجاه الشفق الوردي عند الغروب، وانظر أي أثر يكون لهذا المشهد في نفسه، إما بالصمت والتأمل، أو بالشدو بلحن أو النفخ بمزمار، فإن استبدل الراعي بالشاعر، فبعقله وسجيته سيسجل ما أجادت به لحظة الوجود عليه. هذا التشبيه يختص بالبلاغة الفطرية، التي هي اليوم لا تكفي وحدها لبلوغ الغاية من التأثير على عرش الأسماع والقلوب، ذلك أن اتساع دائرة المعارف الإنسانية وتعدد وسائل البحث والتجريب قد جعلا موقف صاحب الكلمة صعباً، فهو يحتاج إلى ذخيرة من العلم كان الأقدمون في غنى عنها لافتقارهم غالباً إلى إقامة برهان، أو دفع اعتراض مؤيد بمنطق ومدعم بحجج. أما صاحب الحرف اليوم -أياً كان موقعه- فيقع عليه إقناع ناس فيهم من نضجت عقولهم وشبعت من الكلام يرسل على عواهنه، فلا بد له إذاً من الاستعداد لمهمته بالدرس والمطالعة، فالحياة ميدان عمل وليس فيها ما لا يستدعي قراءته أو معالجته، وقد قالها الجاحظ: «لا يحتاج في الجهل إلى أكثر من ترك العلم، وفي فساد البيان إلى أكثر من ترك التبحّر»، ذلك أن الروح - كما يرى فولتير - نار إذا لم تطعمها لتقوى وتشتعل خبت فتناقصت فانطفأت، وكذلك هي آلة العقل. أتى على الإنسان عمر من الدهر وهو يكتب ويشعر ويخطب، فكم من فكرة مرت بخاطر وجرت على لسان! يقول الشاعر زهير: «ما أرانا نقول إلا معاراً، أو معاداً من قولنا مكروراً». وتخيل أن قول الشاعر كان قبل أكثر من 1400 سنة، ومع ذلك نضيف وكلنا ثقة أن ليس في هذا مدعاة إلى شعور صاحب الحرف بقصوره عن الإتيان بأحسن أو بأكثر مما أتاه السلف، وليذكر أن كل جيل من الناس وينظر إلى الحياة نظرته الخاصة المستقلة عمن سبقوه، أم كيف يكون تجدد الحياة؟ ومع الحياة يتطور العلم والعمل وأساليب الأخذ بهما، فإذا جاز لنا القول ما ترك الأول للآخر شيئاً، يجوز لنا القول أيضاً لقد ترك الأول للآخر كل شيء. للكتابة إنشاء خاص، وللكلام إنشاء آخر وللسمع إنشاء ثالث، ومن يجيد الأول (الكتابة) قد يجيد الثاني (الكلام) وقد لا يجيده، فلا يراعي الثالث (السمع)، ففي الشعر نفسه هناك ما تصلح حلته للإلقاء، وما يُكتفى بقراءته في كتب الشعر، وكلاهما شعر، تماماً كما أن الشاعر غير الناظم وكلاهما يحترف الشعر، وإذا كان الكاتب غير الخطيب أو الشاعر فليس لأنه لا يعرف أن يتكلم كما يكتب، بل لأن نوعية كتابته لا توافق المنابر وأمسيات إلقاء الشعر، فالمكتوب ينال بالنظر ويذاق بالفكر، أما المقول فلا يصل إلى القلب إلا إذا مرَّ عبر الأذن التي لها احساس يجب إرضاؤه، والشعور الذي يثيره السمع ليس كالذي تولده القراءة، فضلاً عن أن عقلية الجمهور تختلف عن عقلية الفرد. وسؤالي بعد المقدمة الطويلة: ما السبب في أن ما نسمعه اليوم من الشعر المغنى لا يرتقي إلى مستوى السمع؟ بالأمس أنصتُّ إلى أم كلثوم في رائعتها «أغداً ألقاك»، أعقبها فريد الأطرش في «أول همسة» حملت إبداعهما إحدى قنوات الطرب الفضائية، فتذوقت وتنهدت، فنحن من صنع تلك الروائع، ونحن من يقدر على إعادة تأليفها وأكثر، فلماذا اكتفينا بتسجيلات أسامة بن لادن؟