كلنا نعرف أغراض الشعر العربي، وهي كثيرة ولكن من أهمها غرض الرثاء والمديح والهجاء والفخر والغزل والنسيب والوصف والفكاهة ويتفرع من هذه الأغراض أغراض أخرى لها علاقة بها من قريب أو بعيد، كما أن هذه الأغراض تتداخل أيضاً فالرثاء قد يتخلله بعض المديح، والفخر قد يتخلله بعض الوصف، والفكاهة قد يتخللها بعض الهجاء وهكذا بقية الأغراض الأخرى، أما في موضوع البحر فإن الشاعر العربي لا سيما لدى شعراء الخليج فإنهم تفننوا في ابتكار تقنية الموضوع القائم على البحر بمختلف مستوياته التي أشرنا إليها، فمنهم من اتخذ من البحر خصماً أو عدواً، ومنهم من اتخذه صديقاً، ومنهم من اتخذه وجهاً من وجوه الطبيعة فقط، ومنهم من اتخذه عالماً خيالياً وميتافيزيقياً عجيباً، ومنهم من اتخذه محطة للتأمل والتفكير في الكون والحياة، ومنهم من اتخذه حياة ومنهم من اتخذه موتاً، ومنهم من اتخذه معادلاً موضوعياً للغزل أو مسانداً في تركيب صورة الغزل لدى الشاعر، وهكذا تتعدد الموضوعات، وسأورد هنا بعض النماذج على سبيل التمثيل لا الحصر : النموذج الأول : الشاعر يتخذ من البحر أو من إحدى لوازمه خصماً وعدواً، كما فعل الشيخ شرف الدين الشيخ جعفر بن محمد الخطي القطيفي وهو من أعلام القرن العاشر في القطيف، في قصيدته ( السبيطية ) المنشورة في ديوانه الذي حققه وعلق عليه الشاعر السيد عدنان العوامي، والقصيدة في الجزء الثاني منه، وقد جاء في الديوان أن الشاعر " عبَر البحرَ بين محلّة مُرِّي من قرية كتكان تَوبلي من جزيرة أوال من البحرين مُتوجهاً لمنزله بقرية أب بهان والبحر قد نزعَ جَزراً، فلما توسّط مُعظم الماء، وثَب بعض الحوتِ طافراً في وجههِ، فشقّ وجنتَهُ اليمنَى بجرحٍ كانت عينُه منه في عناية " الله "، فتأذى لذلك، فطالبه الأدبُ بنظم هذه القصّة، فقال للسّنةِ التاسعة عشرة بعد الألف " : برغمِ العوالي، والمهنّدة البُترِ ألا قَد جَنَى بحرُ البِلادِ وتَوبلِي دمٌّ لمْ يُرقْ مِنْ عهدِ نوحٍ، ولا جَرَى تحامَتْهُ أطرافُ القنا، وتعرّضتْ لَعَمرُ أبي الأيامُ إن بَاءَ صرفُها فلا غروَ، فالأيامُ بَينَ صُرُوفِها ألا أبلغْ الحَيَّينِ بَكراً، وتَغلبَاً أيرضيكما أنَّ امرءاً مِن بنيكُما دماءٌ أراقتها سُبيطيةُ البحرِ عليَّ بما ضاقتْ بهِ ساحةُ البَرِّ على حدَِّ نابٍ، للعدوِّ، ولا ظفرِ لهُ الحوتُ، يا بئسَ الحَوادثِ، والدَّهْرِ بثأرِ امرِئٍ من كلِّ صالِحةٍ مُثري وبَينَ ذَوي الأخطارِ حربٌ إلى الحشرِ فما الغوثُ إلا عندَ تغلبَ، أو بكرِ وأيّ امرئٍ للخيرِ يُدعَى، وللشرِّ فيلاحظ في القصيدة أن الشاعر اتّخذ من " السبيطية " وهي إحدى لوازم البحر عدواً وخصماً، وهناك قصائد كثيرة اتخذ الشعراء فيها البحر خصماً وعدواً خصوصاً القصائد العامية والموالات التي تتحدث عن غرق السفن والبحارين في البحر بسبب كثرة الأمواج والعواصف، إلا أن هذا النموذج فيه من الطرافة ما فيه، لأن الشاعر أبي البحر الخطي جعل منه عدواً وخصماً بشكل واضح وكأن هذه السمكة كانت تتقصد أن تؤذيه وتضربه على الجانب الأيمن من وجنته. النموذج الثاني : توظيف البحر في الموضوع الغزلي، ونقرأ في هذا المضمون رباعية للشاعر السعودي السيد حسن الخليفة ، ضمن ديوانه المخطوط ( مناسك عشق ) عندما قال : مَلَكَ الجمالَ عليَّ حتى فِكرتي وأنا الذي قطع البحارَ سِباحةً فطفقتُ أسبحُ في جمالكِ غارقا وبَواخراً ومَراكباً وزوارقا فالشاعر هنا يصنع من عالم البحر مُسانداً مجازياً في مضمون الغزل، عندما يتحدث عن جمال الحبيبة الذي ملكَ عليه فكرته، فطفقَ يسبح في هذا الجمال إلى حدّ الغرق، ويعلل ذلك بتأكيده أنه قطع البحار سباحةً وبواخراً ومراكباً وزوارقاً، كيف لا والشاعر ممن نشأ وترعرع وعاش في مدينة سيهات وهي إحدى مدن الساحل الشرقي من المملكة والكثير من أهاليها يعملون في الصيد وكانت في فترة من الفترات الزمنية السابقة تمارس الصيد والغوص وهي من أهم روافدها الاقتصادية، والشاعر هنا متأثر بالبيئة البحرية في توظيفها بموضوعٍ غزلي. النموذج الثالث : توظيف البحر في موضوع الفرح والسرور والنزهة، وهو هنا نوع من اتخاذ البحر بمثابة الصديق ، حيث نقرأ في هذا المضمون قصيدة للشاعر القطيفي محمد سعيد البريكي ( إلى شاطئ البحر ) وهي ضمن ديوانه ( ربيع الأمل ) وهو ديوان شعرٍ للأطفال، بطبعته الأولى الصادرة عام 1416ه 1996م، حيث قال في قصيدته : صديقي لَقيتكَ أهلاً وسهلا ونَمضي إلى شاطئ البحرِ عصراً ونبني منَ الرملِ بيتاً جميلاً لماذا تُسافرُ عنّي بَعيداً به الشمسُ، والماءُ أزرق صافٍ تَرى صدَفاً فيه منْ كلّ شكلٍ تعالَ مَعي اليوم نَجري ونلعَبْ معَ الأهلِ حتَّى عن الحرِّ نهربْ ننامُ على الرملِ إنْ نحنُ نتعَبْ تعالَ صديقي فالبحرُ أقرَبْ به سمكاتٌ تغوصُ وتلعَبْ إذا طُفتُ في الكونِ لم تلقَ أعجبْ فالشاعر يجعل من البحر محطة للقاء الأصدقاء والجري واللعب والتسلية البريئة، وهذا الشعور هو الذي يطغى علينا جميعاً في علاقتنا بالبحر، فكلنا نذهب إلى البحر ونحن نستحضر هذه المشاعر، وفي الضمن قد تأتي موضوعات أخرى كالتأمل والتفكير في الحياة، أو التذكر وإثارة الماضي، كما في النموذج التالي. النموذج الرابع : توظيف البحر في موضوع الذكريات وإثارة الماضي ، وهو هنا نوع من اتخاذ البحر بمثابة الصديق أيضاً ، و في مضمار تذكر بعض محطاتنا الماضية أيام الطفولة ويرعان الشباب، حيث نقرأ في هذا المضمون قصيدة للشاعر الكويتي محمد الفايز ( في بيت سيّدنا تعلمنا الكتاب ). " في هذه القطعة يصف الكاتب ذكريات عن طفولته في كتّابهِ الذي تعلّم فيه الكتابة والقراءة أول مرة، وهو يقول : في بيت سيدنا تعلمنا الكتاب، ويقصد بالكتاب، كتاب الله الكريم " تحت السقوف الواهيات كضلوعِ مسلول، وفوق حصيرنا الدبق العتيق. في بيت " سيدنا " تعلمنا الكتاب الحمد لله الذي خلق العظام من التراب ومن الثقوب الناتئات على الجدار كعيون أعمى، كالجروح الداميات ينسلّ ضوء الشمس كالجاسوس من كل الجهات وبما تبقى من حصير أو بالخروق الباليات، نسدّ عين الشمس في ذاك المكان وعلى الجدار مسمار " فلقتنا " تعدّل كاللسان، كالأصبعِ المجدور يُنذر بالعقاب للصبية المتمرّدين والرمل في الساحات، والشطآن، والبحر الجميل. فالشاعر لا ينسى أهم وأكبر مكان طبيعي حولنا وهو البحر والشطآن، وكم أثار البحر في وجدان الشعراء من ذكريات جميلة لا زالت عالقة في أذهانهم. النموذج الخامس : توظيف البحر في موضوع الحكمة، ونقرأ ذلك على سبيل المثال ضمن قصيدة للشاعر الإماراتي ( سلطان العويس ) بعنوان ( الأثر الجميل) وموضوعها الأساس هو الحب والعاطفة، إلا أنه يختمها ببيت حِكمي يوظف فيه البحر حيث يقول : فكلٌّ عائدٌ في مُستقَرٍّ تُراباً .. والمياهُ إلى البحورِ ويمكننا تصنيف هذا المستوى من التوظيف أيضاُ بالتوظيف الإشاري القريب، وهو يندرج ضمن معنى صاغه الشاعر بطريقة تقريرية، وهذا الأسلوب يكثر في الشعر التعليمي والحِكمي، وهو ليس عيباً في تركيب النص الشعري، فلكلّ غرض من أغراض الشعر ومواضيعه أساليبه الخاصة. النموذج السادس : توظيف البحر في الموضوعات الوطنية، وهو كثير جداً، ومنها ما قلته في قصيدة لي بعنوان ( عزف الروح على قيثارة الحب) حيث أقول: أنتِ يا ورداً بأحداقي ورَوحَاً أنتِ في صحراءِ آفاقي وحُلمي أنتِ يا ترنيمةً منْ عزفِ روحي أنتِ آهاتي وموّالي وشعري أنتِ في بحري وأمواجي سفينٌ أنتِ حُبي وسط وجداني ينادي سوسنياً ضاعَ عبقاً في وِهادي أنتِ يا أنشودةً منْ كلّ حادِ أنتِ يا قيثارةً في لحنِ شادي أنتِ في بالي وأنسي في سُهادي أنتِ في طوفانِ نفسي كالمهادِ يا بلادي يا بلادي يا بلادي فيلاحظ القارئ والمستمع أن هذا المقطع يندمج مع جوانب من عالم البحر كالموّال والأمواج والسفينة والطوفان، كل ذلك للتعبير عن مدى الحب الذي يكنّ في الصدر وينبعث على شكل كلمات تحاول أن تصوّر هذا الحب بهذه المفردات من هذا العالم العجيب. النموذج السابع : توظيف البحر في الموضوعات الرمزية، كما نقرأ في قصيدة نثرية للشاعرة العمانية ( فاطمة الشيدي ) ضمن قصيدتها ( رقية الحيوات السرية )، وهي قصيدة تتحدث عن الحزن وشيءٍ من التشاؤم الوجودي، فهي تقول في بداية نصّها: الحزنُ ثغرة الكلام يسقطُ من بين نواجذه المضيئة بالفتنة حيث نتعثر في التبعثرِ الغضّ على مطارفِ ما لا يقال. إلى أن تقول: ونايات البوحِ المرتعشة الامتداد تجرحنا فاشتدي في جفل قلوبها وأوسعينا عشقاً مفعماً برائحة الماء الغياب يحكّ ظهورنا الميتة بلمسة مسرفة في الحنو ويقف على شرفات المشيئةِ يغازل حوريات الصمتِ المستلقيات في بحارنا الآسنة هدهدينا سنبتلع الشظايا ونجعل النظر يسيل خلف غابات السؤال. فالشاعرة هنا توظف الماء في بداية هذا المقطع وتقرنه بالعشق، والعشق هو الحضور والشهود، فالإنسان عندما يعشق شيئاً يكون حاضراً بكل روحه وقلبه، ويكاد ينصهر في من يعشقه، ولكن الشاعرة توظف جملة ( بحارنا الآسنة ) عندما تتحدث عن الغياب والغياب بطبعه فراق وبُعاد وهو ما يلازمه الحزن والألم، فالغياب (يحكّ ظهورنا الميتة بلمسة مسرفة في الحنو ويقف على شرفات المشيئة يغازل حوريات الصمتِ المستلقيات في بحارنا الآسنة ). إنه توظيف رمزي، ليس هناك بحارٌ آسنة على سبيل الحقيقة إلا إذا كان ذلك عرضياً ولا يكون ذلك إلا في المستنقعات والمستنقعات لا نسميها بحاراً، ولكن التعبير هنا جاء مجازياً. النموذج الثامن : توظيف البحر في موضوع القيَم والمبادئ، أو ما يمكن أن أسميه هنا رسالة الشعر وبث روح الحماس والرجولة والبطولة كما في قصيدة ( صمت الموال ) للشاعر البحريني يوسف حسن، حيث يقول في بداية قصيدته: يا كلّ أشرعتي ويا لعبي المرقشة الصغيرهْ يا متحفاً خبأته في رملِ سِيفِ البحر إلى أن يقول : يا ساحلاً في رمله خبأتُ أحلام الرجولهْ ونقشتُ فوق ترابِهِ شوق الخيول إلى البطولهْ وبالطبع لو قرأنا في ديوان الشعر العربي في الجزيرة العربية ولا سيما في بلاد البحرين كما كان يُعرف عنها قديماً، ابتداء من العصر الجاهلي مروراً بالعهد الإسلامي الأول، وعصر الخلفاء الراشدين، ومن ثم العصر الأموي والعباسي وهكذا إلى أن نصل إلى العصر الحديث، فإننا سنجد المئات بل الآلاف من القصائد التي تناولت البحر بمختلف مستويات التعبير التي أشرت إليها، وكذلك بمختلف الأغراض الشعرية والمضامين، وبالتالي فإن استقصاء كلّ ما قيل عن البحر وعالمه لدى شعراء هذه المنطقة قديماً وحديثاً يتطلب الكثير من الوقت والكثير من الجهد، ولكنني أؤكد بأن ذلك ليس مستحيلاً، وأعتقد أن هذه الاستراحة الشعرية عن عالم البحر لدى بعض شعراء الخليج ما هي إلا من باب الاستئناس بهذا الأديب الجميل، الذي يتطرق إلى عالمٍ كبير هو بجوارنا ونحن بجواره ألا وهو البحر، وإني أدعو الله أن يوفقني لإتمام هذه الأوراق وإضافة بعض الشواهد لنشرها على شكل دراسة مُكثفة ومُستقلة لعلها تكون إحدى الإضافات في هذا الجانب الأدبي.