كلّما ارتفع صوت سمير جعجع، أو من يشبهه سياسيّاً، بدا كأنّه يكسر صمتاً اضطرّ الجميع لأن يصمتوه. هكذا يُواجَه بالزجر والإدانة والتخوين والتشهير، وهذا كلّه قد يكون مفهوماً في ثقافة سياسيّة مفعمة بهذه الخصال. إلاّ أنّه أيضاً يُواجَه بالمطلب الذي لا يحول ولا يزول: وهو أن يهجر الماضي ويلتحق صاغراً بالجديد الذي أحدثه التغيير. لكنّ التغيير الذي يُفترض بجعجع، بل بالجميع، الالتحاق به، ليس ما تفعله تحوّلات في المجتمع، وفي اقتصاده، وفي ثقافته وقناعاته. وهو ليس ممّا تثبّته صناديق الاقتراع واتّجاهات الرأي العام النامية أو الصاعدة. إنّه، حصراً وتحديداً، ما تفعله القوّة العارية المحضة. فالتغيير، بمعناه السليم والاختياريّ، هو ما تدلّ عليه ظاهرات شبابيّة أشدّ عزوفاً عن القتال وعن تحويل بلدها ساحة له، أو ما يدلّ عليه انزياح واسع عرفته الطائفة السنّيّة حين تصالحت مع فكرة الدولة – الأمّة اللبنانيّة، لأنّ العيش خارج هذه الفكرة ضرب في المجهول وتقلّب على نار الكوارث. التغيير المقصود، في المقابل، ليس من هذا الصنف بتاتاً. إنّه من صنف ما أقدم عليه وليد جنبلاط مدفوعاً بالخوف من القوّة الفائضة ومسوقاً بهواجس أقليّة وذمّيّة. فلماذا، يا ترى، لا يحذو سمير جعجع وأمثاله حذو جنبلاط فنرسو جميعاً على إجماع عظيم؟. وأغلب الظنّ أنّ منطقاً كهذا، شعبويّاً وديماغوجيّاً، يستبطن نزعتين تتنافسان في رداءتهما وفي خطورتهما. أمّا الأولى فالكذب الذي هو، طبعاً، «ملح الرجال». وتقدّم أنظمة الاستبداد العسكريّ والتوتاليتاريّ نماذج شهيرة عن الاصطفاف «الجماهيريّ» في الساحات العامّة مبايعةً للزعيم ولشعارات الحزب الحاكم، ثمّ الانسحاب إلى الغرف الضيّقة المأمونة حيث يُشتَم الزعيم وتُلعن الشعارات. وأمّا الثانية فالطغيان الذي لا يحتمل صوتاً يعارض الإجماع الزائف، ولا يعبأ بكتل شعبيّة ضخمة تحمل رأياً يخالف ذاك الإجماع أو حساسيّة تخالف حساسيّته. ولمّا كانت الآراء، في مجتمعات كمجتمعاتنا، تتلوّن بهويّات أهليّة، بات الطغيان مشروع حرب أهليّة على أصحاب تلك الهويّات. على أنّ مطلب اللحاق بتغييرات من هذا النوع ليس جديداً، لا في لبنان ولا في العالم العربيّ. ذاك أنّ العنف الانقلابيّ الذي عرفته سوريّة والعراق ومصر انتهى إلى كارثة 1967 بعد أن أنزل كلّ أصناف القهر بالّذين لم يتغيّروا ولم يكذبوا. وفي لبنان، في 1975، حلّ «العزل» بحزب الكتائب، وهو المعادل للحرم في المجتمعات الدينيّة، لأنّه كان صاحب رأي آخر في السلاح الفلسطينيّ، ثمّ جاءت كارثة 1982، ولا تزال الكوارث تتتالى. ذاك أنّ «ملح الرجال»، حسب وصف آخر، «حبله قصير». وتجنّب الكذب لا يعني سوى الإقرار بأنّ اللبنانيّين ليسوا مجمعين على ما يراد لهم، بالقوّة المحضة، أن يُجمعوا عليه. أمّا تجنّب الطغيان فأوّله الإقرار بحقّ الجميع في ممارسة قناعاتهم في معزل عن التفتيش والمصادرة والتخوين. فهذه، اليوم، هي الرقابة الأخطر التي تتضاءل، قياساً بها، كلّ الرقابات الأخرى. أليس مدعاة للتأمّل أنّ «الوطنيّة»، بالمعنى الذي يراد للكلمة أن تعنيه، تستدعي كلّ هذين السحق والتدمير للوطن وأهله؟