رحل الفنان علي البوري، عازف البيانو والأورغ، وهو يحلم أن يغير الليلُ إيقاعاتِه الرتيبة، وأن تمتلكَ الصخورُ حاسةً سادسة، وأن يختطفَ من أنيابِ الحريقِ ما تبقَّى من زرقةِ السماء. رحل مبكراً قبل أن يرتوي محبوه وعشاق فنه من مقطوعاته ومعزوفاته الجميلة. نشعر باليتم كلما رحل فنان. تتعثرْ أحلامُ المحار، ويُجهَضُ وميضُ اللآلئ، وتفقد برحيله شجرةُ الجمال ورقةً خضراء. ما أحوجنا في هذا الزمن الموبوء بالعنف، والملوث بسموم الكراهية، وبأصوات الغربان، إلى نسمة نقية على شكل نغمة أو لوحة أو قصيدة تمجّد الجمال وتبشّر به. نقاء لا يحققه إلا الفن. لذلك يشكل غياب الفنان خسارة للوسط الثقافي والفني. وما يعزينا هو أن الفنانَ الغائبَ حاضرٌ من خلال آثاره. وهذا هو الحضور المؤثر الذي يتحدى النسيان، وينتصر على الفناء. وفي الوقت الذي يجد فيه الفنانُ الإبداعَ معادلاً للحياة، وانتصاراً على العدم، وفي حين يهذّب الفن الأرواح ويقاوم تصحرها، ويشيع الحب والسلام، يشحن أعداءُ الحياة والجمال الصدورَ بالبغضاء، ويشيعون ثقافة الموت. أما أول الأهداف التي يستبيحها طوفان الهمجية، فهي معالم الحضارة الجميلة، وفي مقدمتها الفنون ممثلة بالموسيقى. ينظر الفنان إلى العالم بعين المحبة، فيصنع من متاريس الحدودِ وأسلاكِ التاريخِ الشائكةِ أجنحةً محلّقةً في مداراتِ الجمال، وجسوراً صاعدةً إلى فضاءِ المعنى، حيث تعزف الحياةُ موسيقاها الأزلية. يضفي وجود الفنان على الحياة هالة من البهاء، وغايته، كما يقول بيكاسو، هو إزالة غبار الحياة اليومية العالق في الأرواح. وشتان بين يد تمسك بالقلم أو الفرشاة أو الغيتار، أو تداعب مفاتيح البيانو وأخرى توزع، وبشكل عبثي، الموتَ والدمار. رحل الفنان البوري مبكراً، ومع ذلك سيبقى حياً طالما بقيت إبداعاته حية نابضة بالحياة. فالحداد الحقيقي يبدأ، كما يرى الشاعر عمر أبوريشة، يوم يغيّب الزمنُ ذلك الإبداع: «إنها حجرتي، لقد صدئَ النسيانُ فيها/ وشاخ فيها السكوتُ/ عند كأسي المكسورِ حُزمةُ أوراقٍ وعمرٌ في دفتيها شتيتُ/ اقرئيها لا تحجبي الخلدَ عني/ انشريها لا تتركيني أموتُ». وبعد: لقد رحل الفنان علي البوري مبكراً وبين أنامله لحن لم يكتمل. * شاعر سعودي.