التفريط بحقوق أقطار أمتنا، أو بعضها، آفة من آفاتها، عرفتها هذه الأمة منذ عقود عديدة. ولكن كان المفرِّطون بتلك الحقوق يمارسون تفريطهم، الذي قد يصل إلى حد بيع تلك الأقطار، سراً لا علناً. وإن فاحت رائحة منتنة لإحدى صفقات البيع كانت نهاية مَن عقد الصفقة اجتماعياً وسياسياً. لكن الأمور وصلت – في السنوات الأخيرة – إلى بيع الأوطان علناً، ومن الأمثلة ما حدث، ويحدث، في العراق وفلسطين مع الأسف الشديد. بمشاهدتي ما حدث ويحدث، خطر في بالي بيت كدت أن أجعله مطلعاً لقصيدة، وهو: «وَطنٌ يباع فمن يكون الشاري؟ والبيع باليورو أو الدولار». لكنني أدركت كثافة سحابة الكارثة التي تلوح في الأفق، فأدركت أنه يصعب على مَن هو مثلي محدود الطاقة أن يعبِّر عن فداحة كارثيتها، وأحجمت عن كتابة القصيدة. بدأ اليأس يَدبُّ في نفسي بالنسبة الى استعادة الحق المسلوب في فلسطين المغتصبة بما فيها القدس ومسجدها الأقصى، عند نهاية حرب 1973، التي أثبت المقاتل العربي في بدايتها على الجبهتين السورية والمصرية قدرته القتالية وعزيمته العظيمة لتحقيق النصر. لكنها انتهت بمحاصرة فرقة من الجيش الصهيوني، بقيادة المجرم شارون، لفرقة من الجيش المصري غرب قناة السويس، وتوقف إطلاق النار، مؤدياً إلى ما حصل في الخيمة 101، كما هو معروف. وقد عبَّرت عن ذلك على لسان مقاتل بطل من مصر العظيمة، في رسالة إلى أمه معتذراً عن عدم كتابته إليها قائلاً: «أُمَّاه إن كُنت لم أَكتب فمَعذرةً يَدُ الأَسى حَطَّمت في كَفِّي القَلَما ماذا أقول؟ دُخانُ الحُزْن يَخنقني يَغتالُ في شَفتيَّ النُّطقَ والكلما بالأَمس حَدَّثت عن نَصرٍ أُحقِّقه وعن سَنَا أَملٍ من حَوليَ ارتسما عن جَيشيَ الحُرِّ يُصلي المُعتدي لَهَباً يَجتاز كُلَّ حُصونِ البَغي مُقتِحما عن جَحفلٍ سوف يَمضي في تَقدُّمه مَهما تَكبَّد من هَولٍ وبَذلِ دِمَا حَتَى يُعيد إلى الأَقصى هُويَّته ويَسقيَ الذُّل نَذلاً دنَّسَ الحَرَما واليوم ماذا أرى؟ وضَعٌ يُمزِّقني يَبثُّ في مُهجتي الأَحزانَ والأَلما تَوقَّفت طَلقاتُ النار.. عاد إلى مَجَاهل الصَّمت صَوتٌ ضَجَّ واحتدما والقُدْس ما زَال مُحتلٌ يُدنِّسها وغَاصِبٌ في حِماها يَرفعُ العَلَما وعُدْت أَبحث عن حَلٍّ يُقدِّمه من صَبَّ فَوقيَ من وَيلاته ضَرَما وعَن وَثيقةِ تَخليصٍ أُوقِّعها في خَيمةٍ جَرَحتْ من أُمَّتي الشَّمَما». * * * أورام سرطان الذُّل سريعة الانتشار. فلم تمر سنوات على تلك الخيمة إلا وقد تحوَّلت إلى كامب يقال له: كامب ديفيد. ثم توالى تقبُّل الذُّل واستساغة شرب كؤوسه، فلسطينياً وعربياً، حتى وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه الآن من استعداد البعض لبيع أوطان أمتنا بالمزاد العلني. وفي العام الماضي اختيرت القدس عاصمة للثقافة العربية، فنشرت مقالة عنوانها: « أهو التكريم أم التوديع للقدس؟». ومما ذكرته في تلك المقالة مسائل مهمة بالنسبة الى حل القضية الفلسطينية، مثل الانسحاب الصهيوني من الأراضي المحتلة عام 1967 – وهذا أدنى ما يطالب به الضعيف المعترف بشرعية احتلال الصهاينة لما قبل ذلك العام من فلسطين وإن كان خروجاً على إرادة أمتنا، شعوباً وقادة كانت لهم مواقف محمودة آخرها في مؤتمر الخرطوم المشهور -، وحق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم، وهو حق أقرَّته الأممالمتحدة، وعدم الاعتراف بيهودية الدولة الصهيونية. ذلك أن الاعتراف بيهوديتها من أهدافه الشرِّيرة الواضحة طرد من هم داخل تلك الدولة من عرب 1948. وأشرت إلى أن قادة الكيان الصهيوني – بتأييد كامل من أميركا – يرفضون ما ذكر. ولا أظن أن قادة السلطة الفلسطينية سيتمسكون بما أعلنوا استمساكهم به. ذلك أن ما مضى من تاريخهم، ابتداء من اتفاقية أوسلو، لا يبعث الأمل باستمساكهم بما أعلنوا. في الشهر الأول من هذا العام، نشرت مقالة عنوانها: «أهو عام فيه تُصفِّى القضية؟»، ومما قلته في تلك المقالة: قلت عن العام المنصرم أنه عام من الذل والانخداع. وهناك مؤشرات عديدة، فلسطينياً انقسام بين متمسكين باتفاقية أوسلو، التي من بنودها الوقوف ضد أَيِّ مقاومة فلسطينية للاحتلال الصهيوني – وقد برهنوا على هذا التمسك بمساعدة دايتون على التنفيذ – ومُتبنِّين للمقاومة، وعربياً بين متخاذل ُضرِبت عليه الذِّلة فبدا خائفاً مكبَّلاً بإملاءات اتفاقيات معروفة ومظهِراً للصمود وإن كان صيَّاح مقبرة، وغربياً بين متصهين تدفعه عقيدة ضد العرب والإسلام، ومساير للصهاينة طوعاً أو كرهاً... كل ذلك يدل على أن الأوضاع وصلت إلى درجة تجعل من الممكن وضع السؤال، الذي جُعِل عنواناً لتلك المقالة. وأمام معطيات الماضي – لا سيما العقود الثلاثة الأخيرة الحافلة بالتنازلات العربية الخطيرة – ومعطيات الحاضر المنذرة بكوارث استسلامية لا يعلم كارثيتها إلا الله وحده، أجدني مدفوعاً إلى طرح هذا السؤال: هل يؤمل بأن يرتفع مستوى طرح قادة أمتنا، فلسطينياً وعربياً، بحيث يصل إلى مستوى طرح الحاخام الصهيوني مايكل ليرنر الذي أبداه في مقالة نشرها في صحيفة «التايمز» بعنوان ترجمته العربية: «يحطِّم قلبي أن أرى غباء إسرائيل». ومن النقاط الواضحة في ذلك الطرح الحاخامي، ما يأتي: - تفتح إسرائيل حدودها مع قطاع غزة، وتسمح بالانتقال الحر من إسرائيل وإليها مع حق التفتيش بحثاً عن الأسلحة فقط، وتسمح بدخول الأغذية والوقود والكهرباء والمياه والغاز والبضائع الاستهلاكية ونقلها بكل الطرق، براً وبحراً وجوا. - تفرج إسرائيل عن كل الفلسطينيين المعتقلين في سجونها، وتسمح لهم بالعودة إلى الضفة أو غزة بحسب اختيارهم، في مقابل إطلاق الجندي جلعاد شاليط وأيِّ محتجزين آخرين. - يدعو الطرفان قوة دولية لمراقبة تطبيق هذا الاتفاق. - يسري وقف إطلاق النار عشرين عاماً، على أن تفرض عقوبات صارمة في حال مخالفته. إضافة إلى ما سبق، يستدرك الحاخام ليرنر، فيقول: على إسرائيل – باعتبارها القوة العسكرية المتفوقة – أن تبدأ الخطوات الأولى بأن تطبق خطة شبيهة بمشروع مارشال في غزة والضفة، لإنهاء الفقر والبطالة وإعادة بناء البنية التحتية، وتشجيع الاستثمار، وتفكيك المستوطنات أو جعل المستوطنين مواطنين في الدولة الفلسطينية، والسماح بعودة ثلاثين ألف فلسطيني سنوياً إلى إسرائيل لمدة السنوات الثلاثين المقبلة، وأن تعتذر إسرائيل عن دورها في طرد هؤلاء عام 1948، وتعرض تنسيق الجهود الدولية للتعويض عن خسائر الفلسطينيين خلال فترة الاحتلال، وأن تعترف بالدولة الفلسطينية في إطار حدودٍ سبق تحديدها في اتفاقية جنيف عام 2003. ذلك هو طرح الحاخام مايكل ليرنر لحل القضية الفلسطينية. ومع أنه لم يشر صراحة إلى مدينة القدس إلا أن في ما طرحه جوانب إيجابية لم يصل إلى مستواها بعض قادة أمتنا. * الأمين العام لجائزة الملك فيصل العالمية