في 14 أيلول (سبتمبر) 1960 تأسست منظمة «أوبك»، وهكذا احتفلت في الرابع عشر من هذا الشهر بعيد ميلادها الخمسين في مدينة فيينا حيث مقرها. كان ميلاد المنظمة عسيراً جاء بعد سنوات طوال من معاناة الدول المنتجة للنفط من عناد شركات النفط الدولية التي كانت تسيطر على صناعة النفط إنتاجاً وتصديراً وتسعيراً، ف «أوبك» التي أصبحت اليوم لاعباً رئيسياً في سوق النفط الدولية تعود ارهاصات تأسيسها الى اقتراح فنزويلا تبادل وجهات النظر مع الدول المنتجة للنفط حول مستقبل أسعار نفوطها وانتاجها، ورحبت السعودية والعراق وإيران والكويت بذلك المقترح في ظل ظروف زيادة استهلاك النفط وانخفاض أسعاره في تلك الفترة. وجاء عام 1959 لتدرك هذه الدول مدى فداحة الضرر الذي لحق بإيراداتها من نفوطها بعد ان أجرت الشركات النفطية تخفيضات على الأسعار بلغت بين 5 و 15 في المئة، ولم تتوقف الشركات النفطية عند هذا الحد من التخفيض، بل أجرت خفضاً آخر نسبته 8 في المئة بدءاً من شهر آب (أغسطس) 1960، ثم تلاه خفض ثالث بلغت نسبته بين 4 و 10 في المئة، بدءاً من شهر ايلول من العام نفسه، هنا دعت الدول الخمس الى تأسيس منظمتها فعقد مؤتمر بغداد في 10 ايلول 1960 شارك فيه ممثلو الدول الخمس (السعودية، العراق، الكويت، ايران، فنزويلا) وقرروا تأسيس المنظمة التي ولدت في 14 ايلول 1960. هذا المولود الجديد جاء بعد فترة مخاض طويلة، وبعد معاناة الدول المنتجة من ظلم شركات النفط واحتكارها لسوق النفط الدولية في ميدان صناعة النفط إنتاجاً وتصديراً، لكن هذا المولود، وعلى رغم إصرار دوله على تنشئته ليصبح قوي البنية وليدخل حلبة صراع النفط بقدرات تمكنه من كسب جولاته، بعد ان ذاقت تلك الدول مرارة احتكار الشركات للأسعار والانتاج، انضمت دول أخرى لدعمه (بقوة) وبقي يتلقى الضربات الموجعة، لكنه لن يتهاوى ساقطاً، لأنه دخل ساحة العراك وهو مدرك ان هناك انتصارات وهزائم، وان البدايات لانتزاع أي فوز تحتاج الى نضال، وهذا ما أثبتته «أوبك» التي انضمت إليها قطر وليبيا واندونيسيا (خرجت من عقد المنظمة)، الامارات، الجزائر، نيجيريا، الاكوادور، انغولا، الغابون (خرجت من عقد المنظمة)، ومما يؤكد عدم اهتمام الدول الصناعية المستهلكة للنفط بل وشركات النفط ب «أوبك» أنها لم تولِ المنظمة الوليدة اهتماماً، حتى إن وكالة الاستخبارات الأميركية في تقرير سري لها بعد تأسيس المنظمة بشهرين لم تفرد لها سوى أربعة أسطر. وكانت البداية غير مبشرة لا سيما أن سعر النفط الذي تأسست المنظمة للدفاع عنه انحدر من 2.20 دولار للبرميل عام 1965 ليبلغ في عام 1969 بين 1.60 و 1.80 دولار على رغم النمو المتواصل في الطلب على النفط. وفشلت «أوبك» على رغم مضي عشر سنوات على ميلادها في ذلك الوقت في تأكيد أهدافها التي قامت من أجلها، لكنها بقيت حية ترزق في حلبة صراع النفط التي كانت تديرها شركات النفط والدول المستهلكة، وهذا في حد ذاته يُحْسَبُ للمنظمة التي وقفت إلى جانب (الشقيقات السبع) ودولها الصناعية، تصارع من أجل البقاء ولم تسقط بالضربة القاضية، بل ناضلت خلال الستينات للحد من تدهور الأسعار التي سادت في الخمسينات وجنت بعض ثمار جهادها عندما ارتفعت أسعار النفط في حزيران (يونيو) 1973 بنسبة 12 في المئة نتيجة انخفاض سعر الدولار فكان ذلك الارتفاع الأول في الأسعار منذ تأسيس «أوبك». كان الهدف الاقتصادي مسيطراً على جهود المنظمة كما حدده دستورها، لكن لكل فترة في تاريخ النفط طعمها وحلاوتها ومرارتها أيضاً، فشهر تشرين الأول (أكتوبر) عام 1973 كان نقطة تحول في تاريخ «أوبك» وتاريخ الذهب الأسود، فحرب أكتوبر 1973 نقلت النفط من شقه الاقتصادي ليدخل أروقة السياسة من بابها الواسع، فبلغت أهمية النفط ذروتها عندما استخدمه العرب سلاحاً سياسياً واقتصادياً ليسجل أول صدمة نفطية في أسعاره ويقفز سعره من 2.90 دولار إلى 11.65 دولار، واستمرت الرياح تهب رخاء على «أوبك» ونفطها لتبلغ الأسعار عام 1977 حوالى 14 دولاراً ومع الإطاحة بنظام الشاه ونشوب الحرب الايرانية - العراقية عام 1980 سجل تاريخ أسعار النفط ثورته الثانية ليبلغ سعره بين 39 و 40 دولاراً للبرميل. فيما بين 1973 وأوائل الثمانينات كانت الرياح تهب رخاء على «أوبك»، لكن دوام الحال من المحال فقد كان منتصف الثمانينات الذي شهد حرب الأسعار وتفرق السبل ب «أوبك» شديد الوطأة على مداخيل الدول المنتجة للنفط عندما تدنّى سعره كجلمود صخر حطه السيل من علِ ليبلغ 7 دولارات للبرميل واهتزت موازنات معظم الدول وزادت ديونها وقلّ إنفاقها وانخفضت مداخيل مواطنيها، وبقيت الحال هكذا مع التدني الرهيب للأسعار حتى تبنت «أوبك» العودة الى سعر 18 دولاراً، بدءاً من أول كانون الثاني (يناير) 1987 وحددت سقف انتاجها لذلك العام ب 15.8 مليون برميل يومياً، وهو ما أدى إلى تماسك الأسعار الى حد كبير. ولأن الحروب والصراعات والنزاعات هي نيران تشعل هذه السلعة السحرية فإن احتلال العراق للكويت في 2 آب (أغسطس) 1990 انتشل أسعار النفط لتدخل ثورتها الثالثة لتبلغ الأسعار 36 دولاراً للبرميل بعد ان كانت بحدود 12 دولاراً، ولأن الدول الصناعية ممثلة بوكالة الطاقة الدولية كانت مستعدة لمثل هذه الأحداث فقد أخذت تضخ 25 مليون برميل يومياً من مخزونها الاستراتيجي، ناهيك عن أن دول «أوبك» استجابت لطلبات الدول الصناعية فزادت انتاجها وانخفضت الأسعار لتبلغ 20 دولاراً. وما أن حررت الكويت حتى بدأت الأسعار مسيرتها نحو النزول التدريجي أمام التنسيق المحكم والمدروس للدول المستهلكة التي وضعت «أوبك» في خانة عدم التأثير فانحدر السعر ليبلغ عام 1994 13.5 دولاراً، بل إن السعر هوى على مشارف القرن الجديد وتحديداً عام 1998 الى مستوى 10 دولارات للبرميل ولم تتماسك الأسعار وتأخذ مسيرتها نحو الارتفاع الا بعد ان خفضت «أوبك» إنتاجها إلى حوالى 23 مليون برميل يومياً في اجتماع الرياض الشهير عام 1998 لتتحسن الأسعار وتبلغ 12 دولاراً، واستمرت في التحسن لتكسر في شباط (فبراير) عام 2000 حاجز 30 دولاراً. وتعود الحروب والصراعات والنزاعات لتدفع بعجلة أسعار النفط الى الصعود المستمر فجاءت ثورة أسعار النفط الرابعة، فبعد أحداث 11 ايلول 2001 واحتلال افغانستان ثم الانقضاض على العراق واحتلاله باحتياطيّه الذي يبلغ 115 بليون برميل أخذت الأسعار في الصعود المستمر لتكسر حاجز 147 دولاراً للبرميل ولم يوقف زحفها المتسارع سوى زلزال الكساد الاقتصادي العالمي الذي هز قواعد الاقتصادات الدولية لتعود الأسعار الى النزول السريع لتبلغ 33 دولاراً لتنتفض «أوبك» وتخفض إنتاجها 4.2 مليون برميل يومياً ليصبح اليوم بحدود 24.84 مليون برميل يومياً من دون العراق، لتعود الأسعار الى التحسن وتحوم بين 75 و 80 دولاراً للبرميل وهو سعر مقبول عند «أوبك». إن المنظمة بين الأمس واليوم صادفتها نجاحات كما قابلتها اخفاقات فمرت عليها سنوات سمان عدة ودخلت خزائنها أرقام فلكية من ايرادات النفط خلال ثورات الأسعار، كما أن تاريخها سجل سنوات عجافاً ألحقت باقتصاداتها وموازناتها أضراراً كبيرة بسبب حروب الأسعار وتدنيها، لكن هذه المنظمة العنيدة التي احتفلت بميلادها الخمسين قبل أيام بلغت من النضج والرشد لتكون منظمة اقتصادية، أهميتها لا تدانى وتأثيرها في سوق النفط الدولية لا ينكره احد وباتت قوة لا يستهان بها، وهي تستمد قوتها هذه من انها تسيطر على 80.7 في المئة من إجمالي الاحتياطي العالمي وتستحوذ على 40 في المئة من صادرات النفط الدولية. إنها منظمة وُلِدت لتبقى على رغم التحديات الجسام، وبدا أنها بعد أن بلغت هذا العمر قد فهمت قوانين الصراع وتكتيكاته على الصمود الى النهاية حتى لو خسرت بعض الجولات، وهذه هي ساحات السباق ومن يسجل انتصارات أكبر يكسب الرهان، و «أوبك» في تاريخها النفطي استطاعت ان تسجل أهدافاً نظيفة في مرمى الخصوم فبقيت جواداً رابحاً. * رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية. [email protected]