في كتابه «فقه الجهاد» الصادر حديثاً عن «مكتبة وهبة» في القاهرة، يشير يوسف القرضاوي إلى أنه أصبح أمامنا - نحن المسلمين اليوم - وسائل وقنوات شتى غير الحرب والقتال، لتبليغ كلمة الإسلام إلى العالم، من دون جيوش محاربة، ولا جنود مجندة، إنها وسائل سلمية متاحة لمن أرادها إذا توافرت عنده: النية الصادقة لاستخدامها وحسن تخطيط للاستفادة منها والقدرة العلمية والمالية للقيام بمتطلباتها، والإطارات البشرية المعدة فنياً وإسلامياً للقيام بمهمتها، ومخاطبة شعوب الأرض بلغاتها. عندنا من الوسائل الممكنة: الإذاعات الموجهة إلى الأمم بلغاتها المختلفة، والقنوات الفضائية التي تصل إلى أنحاء العالم شرقاً وغرباً، وشبكة المعلومات العالمية: الإنترنت. هذه الأدوات التي تستطيع أن تخترق الأسوار، وتدخل على الناس في بيوتهم، ولا تحتاج إلى إذن الرقيب، ولا سماح الحكومة. هذا فضلاً عن الكلمة المقروءة من طريق الكتب والرسائل والنشرات والصحافة الشهرية والأسبوعية واليومية. وهذه الآليات المعاصرة تحتاج إلى جيوش من المجاهدين المدربين المجهزين، ولكن ليس بالبنادق ولا الرشاشات ولا القنابل. إنهم يجاهدون بالعلم والمعرفة، وبالبيان والإعلام، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، يخاطبون الناس بلغاتهم، المختلفة. اتبع القرضاوي في كتابه منهجاً يقوم على جملة عناصر أساسية: الاعتماد أساساً على القرآن واعتماد السنة الصحيحة، والاغتراف من بحر الفقه من دون تحيز لمذهب معين. وفي تتبعه لآراء الفقه الإسلامي، لم يقتصر القرضاوي على أقوال المتأخرين، وتفريعات لا توجد في كتب المتقدمين، على ما فيها من أصالة ويسر، بل جمع بينهما، واستفاد مما في كلتيهما من علم وهدى، المقارنة بين الإسلام وغيره من الأديان والقوانين: لنتبين مدى أصالة الشريعة، ورواسخ أصولها، ومتانة قواعدها، واستقلالها عن غيرها، وجمعها بين المثالية والواقعية، وبين الربانية والإنسانية، الربط بالواقع المعاصر. والفقيه الحق هو الذي يزاوج بين الواجب والواقع، كما قال ابن القيم، فلا يعيش في ما يجب أن يكون، مغفلاً ما هو كائن. إن على الفقيه إذا تحدث عن الجهاد أو القتال أو الحرب، أن يدرك حقيقة التغيرات الكبيرة والجذرية في هذا المجال على مستوى العالم، ولا بد له كي يصدر حكماً شرعياً قويماً، من أن يفرق بين الثوابت والمتغيرات. ومما يدعو للعجب كما يرى القرضاوي ويعده من آفات المسلمين: أنك إذا طلبت عشرة منهم (ليموتوا) في سبيل الله تقدم إليك مئة، بل ألف، مستعدون للموت طلباً للشهادة، ولكن لو طلبت (ألفاً) من المؤمنين (ليعيشوا) من أجل الإسلام ويعملوا له، ربما لم يتقدم إليك أكثر من عشرة! ويقول القرضاوي إنه أنجز هذا الكتاب في هذا التوقيت لأمرين: الأول ما يتعرض له الإسلام وأمته من غارة شعواء، تريد اقتلاعه من جذوره، متسترة بدعوى الحرب على الإرهاب، والثاني غلو بعض الشباب المتحمسين في قضية الجهاد، الذين حاربوا العنف بالعنف، قائلين: الشر بالشر يحسم، والبادي أظلم. ويشير القرضاوي إلى وجود الجهاد على الساحة من خلال ثلاث فئات: فئة تريد إماتة الجهاد وأن تسقطه من حياة الأمة، وأن تجعل أكبر همها ومبلغ علمها: أن تربي الأُمي - كما تقول - على القيم الروحية، والفضائل السلوكية، وتعتبر هذا هو الجهاد الأكبر، جهاد النفس والشيطان. فئة تعلن الحرب على العالم كله، فكل الكفار عند هذه الفئة سواء في وجوب مقاتلتهم إذا كان المسلمون قادرين، وهؤلاء لا يرتضون ميثاق الأممالمتحدة، لأنه يمنع الأمة من الجهاد، ويفرض عليها احترام الحدود الإقليمية للدول ذات السيادة، ويوجب حل النزاعات الإقليمية بالوسائل السلمية. ولهذا الفكر آثار سيئة، في أنفس من آمن به من الشباب المخلصين في نيتهم، فحملوا السلاح على قومهم وأهليهم، وقاتلوهم وقتلوا منهم، فقد أدخلوهم في زمرة الكفار الذين يجب قتالهم، لأنهم ارتدوا عن الإسلام، وباتوا يوزعون تهمة الكفر على كل من يخالفهم من الناس، حتى من علماء الدين. فئة التوسط والاعتدال وهي الأمة الوسط، التي هداها الله إلى الموقف الوسط، وأتاها العلم والحكمة، ورزقها البصيرة في فقه الشرع، وفقه الواقع، فلم تقع في تفريط الفئة الأولى التي تريد للأمة أن يبقى حقها بلا قوة، ومصحفها بلا سيف، وأن تبقى دارها بلا حُراس، وحرماتها بلا حماة.