في الثامن من تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1932 كتبت صحيفة الأهرام: «إن للشرق جوهراً روحياً يقف ضد المادية... لقد هبت المادية لتدمر الجوهر الروحي للشرق... وها قد أصبح الأتراك أوروبيين وتسير بعض الحكومات العربية في طريق تغريب سكان الشرق معتمدة شكل الحكم ونظام التعليم...». تلك الافتتاحية التي جاءت في زمن أحكم فيه الغرب قبضته على عالم الإسلام كانت تشير، وربما لليوم أيضاً، الى الموقف الحضاري من الغرب والأثر الذي كان ممكناً أن يحدثه في الثقافة العربية، منذ بدأ السجال حول الإصلاح والتجديد، وهو سجال حول مرجعيات الإصلاح في العصور الحديثة. ومع أن الركون صعب الى تصنيفات دارسي «النهضة العربية» التي أوجدت حداً فاصلاً بين زمنين، هما زمن ما قبل حملة نابوليون على مصر عام 1798، والزمن الذي تلاها باعتبار أن الزمن الثاني هو مجال النهضة وحركتها الباعثة، وأن الزمن الأول زمن البيات والرضوخ للنفق العثماني إلا أن البحث في مقاربات إصلاحية أخرى يبين أن ثمة جدلاً فكرياً كان مماثلاً لجدل الإصلاح في المجال العربي، ونعني هنا في المجالين التركي والهندي. مع صعوبة الإقرار بمبدأ اللحظات الحاسمة في التاريخ أو بفواصل الزمن في تاريخ الفكر، إلا أن الثابت في تاريخ الفكر العربي أن التجديد لم يكن يبدأ القرن التاسع عشر بفعل مدفع نابوليون وحسب، بقدر ما كان الفعل النهضوي العربي والإسلامي استمراراً لحال متوارثة ومتراكمة في تاريخ الفكر العربي ونتيجة لحالة تأثير وتأثر مع مجالات أخرى وأخص هنا الحالة الهندية وتأثيرها في المجال العربي. بداية، الإصلاح لم يكن فعلاً فردياً بقدر ما كان نتيجة لسلسة من الأفكار الفردية التي أخذت شكل تيارات، وعند دارسة الحال الهندية يجب الإشارة أولاً الى أثر علماء شبه القارة الهندية وموقعهم في مسار عدد من رجال الإصلاح العربي ومن ذلك نشير هنا إلى وجوب رصد ودراسة الأثر الذي قد يكون أحدثه تتلمذ الشيخ محمد بن عبدالوهاب ونشاطه العلمي في بيئة ثقافية كان علماء شبه القارة الهندية حاضرين بها بكثافة. إن دراسة تاريخ الأفكار لا تتم بمعزل عن المؤثرات، لذا فإن من المهم التوقف عند شخصية الشَّيخ مُحَمَّد حَيَاة بن إبراهيم السِّنْدِي المدني الإقامة والوفاة، المولود في مدينة حجر بإقليم السند، والذي يعد نموذجاً للتأثير الثقافي الذي قد يكون ألقى بظلاله على رموز الثقافة الدينية ورجال الإصلاح في تلك الحقبة. والشيخ السندي هاجر إلى الحرمين الشَّريفين، فحجَّ، وتوطَّن المدينة، وأخذ عن علمائها، ولازم الشيخ أبا الحسن بن عبدالهادي السندي المدني، وأخذ العلم عن علماء كثيرين. يقول صديق القنوجي في كتابه أبجد العلوم: «وانتفع به خلقٌ كثير من العرب والعجم، وأقبل عليه أهل الحرمين ومصر والشام والرُّوم والهند بالاعتقاد والانقياد». ويعد الشيخ محمد بن عبدالوهاب أشهر تلاميذه إلى جانب الشيخ محمَّد بن إسماعيل الصنعاني صاحب كتاب «سبل السَّلام». تفيد المصادر بأن الشيخ السندي تميز بدعوته الى الانفتاح على المذاهب الإسلامية وهو وإن كان حنفي المذهب إلا أنه كان يرفض التمذهب وقد روي عنه أنه قال: «وأمَّا ما أحدثه أهل زماننا من التزام مذاهب مخصوصة، لا يرى ولا يجوِّز كلٌّ منهم الانتقال من مذهب إلى مذهب، فجهل وبدع وتعسُّف». ومع أن أثر الشيخ السندي طاول كثيرين من علماء العرب وبلاد الإسلام المقيمين والمجاورين في المدينةالمنورة، والسؤال الذي تطرحه هذه المقالة إلى أي مدى ألقى الإسلام الهندي بظلاله على حركة الإصلاح الديني في مجتمعات الإسلام الحديث والمعاصر؟ وما التيارات التي عبرت عن الإصلاح في الإسلام الهندي؟ وهل كان الجدل حول الأخذ من الغرب حاضراً كما هي الحال في المجال العربي. إن المتتبع حركةَ الإصلاح في الإسلام الهندي يجد أن العلاقة مع الغرب طُرحتْ كقضية مركزية في سجال الإصلاح مبكراً ومنذ القرن السابع عشر الميلادي مع إرهاصات الانهيار العثماني ممثلة في الانهزامات العسكرية المتتابعة والتي توجت بمعاهدة كارولفتس عام 1110ه/1699م، والتي مهدت لخسارة الدولة العثمانية المزيد من أراضيها في أوروبا وفتحت الباب لمنح الامتيازات الأجنبية. وبحسب رأي محمد حلمي عبدالوهاب ظهرت مسألة الإصلاح والأخذ من الغرب لدى مفكري شبه القارة الهندية في بواكير كتاباتهم المتعلقة بهذه القضية بعد انهيار دولة المغول الإسلاميّة/ الدولة التيمورية (932 ه/ 1526 م - 1273 ه/1857م)، وتصاعد الجدل بعد الثورة ضد الاستعمار البريطاني منتصف القرن التاسع عشر. آنذاك ظهرت الدعوات الإصلاحية التي كان همها الأكبر ممثلاً في مناقشة قضايا الصراع بين الحضارة الأوربية الوافدة من جهة، والثقافة الهندوسية العريقة من جهة ثانية، والعقيدة الإسلاميّة من جهة ثالثة. وتبعاً لذلك، انقسم المفكرون المسلمون هناك عقب ثورة عام 1274ه/1857م، إلى اتجاهين رئيسين: أولهما اتجاه محافظ، ممثلاً في أتباع الشاه ولي الله الدهلوي (1114ه/1703م - 1176ه/1762م) صاحب الكتاب الشهير «حجة الله البالغة» والذي دعا إلى مقاطعة الغرب ومحاربته والتمسك بكتاب الله وسنته. وثانيهما: الاتجاه التحديثي ممثلاً في شخص السيد/ أحمد خان (1233ه/1817م - 1316ه/1898م)، والذي دعا إلى الاقتباس من الحضارة الغربية في علومها ونظمها وفنونها مع التمسك بالثوابت العقدية. واعتمد المنهج التربوي والتعليمي في الإصلاح والدعوة للاقتباس من الغرب من طريق الترجمة فأسس جمعية للترجمة مهمتها نقل علوم الغرب، كما شيد جامعة إسلامية شرقية في عليكرة عام 1875. أما التيار الثالث فهو التيار الإحيائي التجديدي، ومثله أبو الكلام آزاد ومحمد إقبال. ويضاف إلى ذلك تجربة أبو الأعلى المودودي (1321 - 1399 ه / 1903 - 1979م). في ضوء ما تقدم يبدو أن الوعي بالتأخر بلغة عبد العروي، كان في الإسلام الهندي مماثلاً له في المحال العربي وحتى في النموذج التركي أيضاً، ومع أن الإصلاح الإسلامي مر بتحولات وتجاذبات فكرية عدة، إلا انه لا يمكن بأية حال رفض مبدأ التأثر بالغرب، ومع أن الحديث عن حداثة أو عصرنة أو نهضة أو إصلاح رتب وفق زمان عربي كان قابلاً للبحث عن سؤال التقدم، إلا أن ذاك التقدم لم يكن متصوراً من دون الاختلاط أو الاقتباس من الغرب، فقد ذهب رفاعة الطهطاوي إلى أن «مخالطة الأغراب لا سيما ذوي الألباب تجلب للأوطان من المنافع العمومية العجب العجاب» وكذلك الحال مع خير الدين التونسي الذي تساءل قائلاً: «هل يمكننا اليوم الحصول على الاستعداد الحربي اللازم لدفع خطر أوروبا من دون تقدم في المعارف وأسباب العمران المشاهد عند غيرنا». وكذلك الحال في دعوات بطرس البستاني للأخذ بحاضر الغرب في كتابيه «الواسطة في معرفة أحوال مالطة» و «كشف المخبأ عن فنون أوروبا». * أستاذ مشارك باحث في التاريخ العربي الحديث في الجامعة الأردنية.