وقفوا يحاولون النظر عبرَ الفرجات الضيقة التي تركتها قضبان الشبابيك الصغيرة في أعلى العربة الزرقاء التي ظلت تترجرج من دون توقفٍ، ولا نهايةٍ، يتناوبون ذلك وكأنَّهم لم يروا هذه المناظر قط، يتشبثون بأصابعهم وعيونهم كأنَّ هذه النظرة تمدّهم بما يعينهم على الحياة. إلا عبده، فقد ظلّ جالساً في وسط العربة ينكش بظفر خنصره أرضيتها في شرود، لاحظ ذلك سعيد؛ فترك زملاءه وجلس إلى جواره: إيه يا عبده، ألا تقوم لترى. لم يعدل عبده من وضعه؛ فهزَّه سعيد برفق: علينا أن ننسى ما كان، وأن نبدأ من جديد. رفع عبده رأسه في هدوء، وهو يحاول أن يبتسم إلا أن محاولته فشلت؛ فبدا وجهه متألماً، فأسرع سعيد بالتربيت على كتفه هامساً: ستراهم قريباً وستتعدل الأوضاع و... أوقفته نظرة عتاب وتحذير من عبده الذي ضغط على مرفق سعيد وهو يزوي ما بين عينيه؛ فأمسك عن الكلام ثم هبَّ فجأة متصنعاً السعادة وهو يقول للمتعلقين بالنافذة: أين نحن الآن؟ كم مضى من الوقت وهم على هذه الحال (منذ هبطوا من عربة الشرطة التي أقلّتهم إلى هذا المكان، وبعد أن جرى لهم - كالعادة - ما جرى) وهم جالسون في صمت؛ في البداية ينزلون بالطريقة المعتادة إلى ساحة مشابهة لما قبلها ولما بعدها، يقف فيها ذوو الهراوات والشوارب على شكل مربع ناقص ضلعٍ، يجلسونهم وقد شبكوا أصابعهم ووضعوها على رؤوسهم التي التصقت بالأرض تقريباً، يتم النداء عليهم واحداً واحداً، وتفتيش كلٍّ بالطرق السابقة نفسها، ثم اصطحاب المنادى عليه إلى غرفة مظلمة خالية رطبة تنشع منها روائح ما، تتصاعد وحركة باب ذي صرير مزعج وصوت إغلاق أكثر إزعاجاً، يخترق الغرفة استجوابٌ لشخص أو أكثر في غرفة قريبة. تتعالى أصوات شتائمَ وسبابٍ، فترة صمت، ثم صوت صفعاتٍ وركلاتٍ فيما يعلو صراخٌ شديد، ثم صوت أقدام قليلة وأنين شخص يبدو أنه يُسحب من جانب بعض الزبانية الذين استقبلوهم بنظراتهم المخيفة الجوفاء، وعضلاتهم المفتولة، وهراواتهم التي تشبه أفاعي الرافد. فترة صمت طويلة. يطرق الباب فيستجمع الموجود داخل الغرفة ما يجد من نفسه وهو يرتجف: لماذا يطرقون الباب؟ هل سيمنعهم أحد؟ هل أملك أن أرد؟ يصطحبه شَاربٌ وعضلات مفتولة وعينان تتقدان شرراً كأنهما ستشعلان الممر الطويل الخافت الإضاءة، الكثير الانحناءات والتعرجات والغرف ذات الأبواب المتماثلة، يقف الرجل أمام غرفة ثم يطرق الباب ويدفعه في هدوء لا يتناسب وشاربه، يؤدي التحية وهو ينطق الاسم. يُدخِل المستجوبَ ثم يقف خارجاً بعد أن يغلق الباب بيد، ويؤدي التحية بيد. ليس في الغرفة غير كرسي يجلس عليه محقق أمامه الملف الأزرق ذاته: يبدو أنه سيدخل معي القبر. مفتوحاً على مكتب صغير، الأسئلة نفسها: لماذا سافرت؟ ماذا كنت تفعل؟ لماذا لم تعد بعد الحرب الأولى؟ كيف انضممت إلى حزب الوعد الرافدي؟ ما علاقتك بالاحتلال؟ كيف تم القبض عليك؟ هل هناك آخرون لم يعودوا؟ الأجوبة نفسها تقريباً إلا ما يغير بفعل قلة التركيز والجوع والخوف. صمتٌ قاسٍ ونظرة أشد قسوةً: هل هذا كل ما لديك؟ يعود المحقق بظهره الى الوراء قبل أن يسمع الإجابة المتلعثمة نفسها: والله العظيم آه. تجرّه يد ثقيلة والأخرى تلقي التحية. لا ترجع به – من الطريق التي جاء منها - اليد التي لا يرى جسد صاحبها هذه المرة، بل تمضي به في الممر الذي لا ينتهي، عن اليمين وعن الشمال الغرف نفسها ذات الأبواب المتشابهة كأنها لا تنتهي، تقف به اليد وتدفعه إلى غرفة مظلمة باردة تفوح منها رائحةٌ نفاذةٌ قذرةٌ، لا يحدد نوع هذه الرائحة حتى ينخرط في الدمع أو... كم مضى عليهم في هذا التحقيق؟ كم مرة حُقِّقَ معهم؟ كلما حملتهم عربة زرقاء إلى مكانٍ، حدثَ معهم الأمر نفسه. في النهاية يؤخذ كل واحد، وتُعصَب عيناه - اللتان لا تستطيعان الرؤية بالأساس في هذه العتمة أو في الأضواء الخافتة عبر الممرات شبه المضيئة - ويُدفَع في غلظة مدربة حتى يجد نفسه وقد نُزعت التعصيبة جالساً في وسط رفاقه فيذهب في نوم عميق، لا يقطعه سوى فتح الباب وإلقاء أحدهم إليهم أو ارتعاده من صفعة تهوي عليه في أحد الكوابيس الثقيلة. أما زلنا في بلاد الرافد؟ همس سعيد في أذن عبده الذي لم يفتح فمه، فرفع سعيد صوته الواهن بالسؤال مرة ثانية من دون إجابة، فعاد إلى نومه العميق المتقطع الذي يشبه ليل الرافد في السنوات الأخيرة. تم إخراجهم جميعاً إلى الساحة الواسعة، استطاعوا فتح عيونهم لكنهم لم يستطيعوا تحديدَ الوقت بدقةٍ: إما آخر النهارِ أو أوله. دوَّى الأمر: كلٌّ ينظر إلى أسفل قدمه. فتحركت المحاجر لتستقر عند أطراف الأصابع قبل أن يتم الأمر. دقائق قليلة ربما هي ساعات - لشدة تعبهم، ونفاد قدرتهم على التحمل، وخواء بطونهم تقريباً - وأخذوا في التساقط، حاول عبده المقاومة إلا أن الدوار هزمه؛ فلم يرَ سوى رأس سعيد المغطى بالتراب، وفمه شبه المفتوح كأنه يسأله السؤال نفسه، ولم يشعر إلا بمرارة الدمع والدم والمخاط والتراب. وصلنا أخيراً إلى المركز الذي تتبعه قريتنا أنا وسعيد وهندي ومعنا أبناء القرى الأخرى، كانت مديرية أمن المحافظة قد أرسلت إشارة سرية تفيد بوصولنا، هكذا همس لي جندي حراسة العربة خلسة وهو يدخلنا إليها: لكن قريتنا يا عبده لا تنام منذ علمت بمجيئك. انطلقت العربة في طريقها من دون أن يحاول أحدهم الاقتراب من الشبابيك الصغيرة، فبدأت الشمس تضرب وجوهنا واحداً واحداً. سأل أحدنا: متى سنصل إلى بيوتنا؟ رد سعيد: يعني خمسة أو ستة أيام إذا لم يكن في قريتك مكان للاستجواب. حدجته بنظرة غاضبة؛ فمن أدرانا أنه ليس بيننا من سيقول هذا الكلام عند الاستجواب المقبل؟ بينما بدا على هندي أنه ما زال في عالمه الغريب. توقفت العربة فوقفنا في ذلك الطابور المعتاد، إلا أن وقفتنا طالت، ولم نستطع أن نفعل شيئاً، حتى قال صوت: لنجلس، فسوف نقف طويلاً. فُتِحت كوة فوق الباب المغلق ونظر إلينا جندي، قال بلهجة خافتة قلقة: اجلسوا. كنت أول الجالسين، ليس لأن لهجة الجندي أخافتنا - فللأسف لم أعد أشعر بشيء مطلقاً، ليس مما جرى لنا منذ دخولنا الحدود، ولا منذ القبض علينا - بل يعود الأمر إلى أبعد من ذلك، ربما إلى يوم غادرت الحدود نفسها منذ اثنين وعشرين عاماً؛ ياااااه عمر كبير. عمر أَصلِي. مضى تاركاً شيئاً لا طعم له يسكن لساني ولا يتحرك كهذه العربة تماماً. * من رواية تصدر قريباً