الكتاب المصري سيغيب هذه السنة عن معرض الجزائر العالمي للكتاب الذي يقام الشهر المقبل، والجمهور الجزائري الذي يهوى القراءة بالعربية لن يتمكن من مواكبة حركة النشر المصرية، وهي غزيرة بالطبع بل والأغزر عربياً. غياب الكتاب المصري أو بالأحرى تغييبه عن معرض الجزائر ارتأته مفوضية المعرض نزولاً عند رغبة «الطبقة» السياسية العليا، ظناً منها أنه سيكون عقاباً للجمهور المصري الذي ناصب الجزائر العداء خلال مباراة كرة القدم الشهيرة التي جرت في الخرطوم قبل أشهر، وفاز فيها الفريق الجزائري على المصري ومنعه من التأهل لمباراة «المونديال». وكانت حصلت عشية المباراة وغداتها أحداث شغب معيبة في القاهرةوالجزائر عبّرت عن حال العداء الذي نشب بين المواطنين، هنا وهناك. ولم يتمالك هؤلاء المواطنون المشاغبون عن رمي «خصومهم» بالحجارة وعن اقتحام منازل ومحالّ والقيام بأعمال عنف... كانت هذه الأحداث بمثابة وصمة عار حلّت على الجمهورين الشقيقين - مبدئياً - وأظهرت أنّ الحقد العربي يمكنه أن يهبّ فجأة ويمحو تاريخاً من المؤاخاة في العروبة والقومية وسواهما. كان ممكناً حصر هذا «الغضب» في ملاعب الكرة لو لم يُستغلّ سياسياً في مصر كما في الجزائر، لمصلحة السلطتين ولو لم يُمنح طابعاً «عصبياً» هو براء منه. وسرعان ما اتسع هذا الغضب وشاع حتى بدا كأنّه قضية وطنية «داخلية» لا بدّ من الانخراط الشعبي فيها. لكنّ المفاجئ - والأليم - هو دخول بعض المثقفين، من صحافيين وكتّاب وفنانين، خضم هذا السجال، انتصاراً لجمهورهم أو لشعبهم كما خُيّل اليهم. وقرأنا حينذاك مقالات معيبة كتبتها أقلام مصرية وجزائرية محترمة، كان ينبغي لها أصلاً أن تساهم في تهدئة موجة الغضب وفي الدعوة الى التآخي والتعقّل. إلا أنّ الخروج المبكّر للفريق الجزائري من مباراة «المونديال»، وهو بدا أشبه ب «الهزيمة» الرياضية، لم يشف غليل الجمهور المصري الذي راح يهزأ من الفريق الجزائري «متشفياً» منه. ولم يكن على هذا الهزء الشعبي إلا أن يصبّ الزيت على نار «الهزيمة» الجزائرية فاحتدمت أحوال الكراهية والعداء، عوض أن تتلاشى بُعيد انتهاء «المونديال». وقد يمثل رفض السلطة الجزائرية مشاركة الناشرين المصريين في معرض الجزائر للكتاب ذروة هذه الكراهية أو العداء. وهذه بادرة لم يكن سهلاً التغاضي عنها لا سيّما في الجزائر التي كانت من أفضل العواصم التي احتفلت قبل ثلاثة أعوام ب «الثقافة» العربية بصفتها عاصمة لها. وكان على المثقفين الجزائريين المقيمين والمهاجرين أن يتحرّكوا ضد هذا القرار وأن يصدروا بيانات استنكار شاجبين هذه البادرة التي تسيء الى الجزائر والى القراء الجزائريين والى الثقافة الجزائرية. لكنّ بياناتهم ودعواتهم الاحتجاجية لم تلق آذاناً صاغية ولم تؤت ثماراً. لقد صدر القرار ولا تراجع عنه: مصر ممنوعة فعلاً من المشاركة في المعرض عقاباً لها. ولعلّ المفوّضية - ومن وراءها أو فوقها - على يقين من أنّ هذا العقاب لن يحل إلا على جمهور المعرض وعلى القراء الجزائريين الذين سيُحرمون من مواكبة الكتب المصرية الجديدة التي ينتظرونها عاماً تلو عام، لا سيما وسط تردّي حال التوزيع التي يشهدها العالم العربي. وقد باتت المعارض هي الفرصة السانحة للاطلاع عن كثب على حركة النشر العربية. الكتاب المصري ليس هو الذي سيُعاقب كما حاولوا أن يُشيعوا، حتى وإن كان معرض الجزائر سوقاً جيداً للكتب. الكتاب لا يُعاقب، القارئ هو الذي يُعاقب. وحرمان القراء من متابعة الكتب يسيء إليهم هم وبالتالي الى ثقافتهم التي تقوم عليها عادة ثقافة بلادهم. هذه طريقة جديدة لمعاقبة الكتاب وقارئه في آن واحد، ولا أظنّ أن «محكمة» أصدرت سابقاً حكماً بهذه القسوة والسذاجة. نقرأ عن مصادرة كتب أو منعها أو حرقها لأسباب وأسباب، لكننا نادراً ما قرأنا عن قرار يمنع دولة بكاملها، دولة شقيقة بكاملها، من المشاركة في معرض للكتاب انتقاماً لحماسة هوجاء أصابت جمهور فريق كرة. حتى اسرائيل المعروفة بمعاداتها للكتاب العربي تفتح أبواب معارضها أمام الناشرين العرب. وعندما احتفل معرض الكتاب في باريس قبل بضعة أعوام بالأدب الاسرائيلي اختارت اسرائيل كاتباً عربياً ليكون في عداد وفد الكتّاب الاسرائيليين الذين شاركوا في التظاهرة. إلا أنّ الهيئة المصرية العامة للكتاب التي تنظّم معرض القاهرة للكتاب كانت أذكى من مفوضية معرض الجزائر، وكان ردّها على القرار حكيماً وهادئاً، وأعلنت فتح أبواب المعرض أمام الناشرين الجزائريين، مع أنها تعلم أن المشاركة الجزائرية في المعرض ضئيلة أصلاً وغالباً ما تتم عبر بعض المكتبات. هذه هي القاهرة التي لا يمكنها أن تغلق أبوابها أمام أي بادرة عربية، مهما بلغت «شوفينيتها» المصرية لا سيما في لعبة كرة القدم. إنها كرة القدم إذاً، انتقلت الى معارض الكتب جاعلة من القراء العرب جمهوراً مقسوماً على نفسه، جمهوراً يصفّق ويتحمس، وجمهوراً يغضب ويشتم ويخرّب... وكان ينقص عالم الكتاب العربي، الحافل بالأزمات والشجون أن تتسلل إليه كرة القدم، حاملة معها أحقاداً وكراهيات وعداوات.