كثيرة هي الكتب التي تناولت الثورة المصرية، والتي لا تزال تصدر حتى باتت أشبه بالموضة، وربما نتيجة وقوع أصحابها تحت ضغط اللحاق بركب الحدث، تحولت الكتابة عند غالبيتهم إلى فعل تسجيلي يفتقد التأمل والرؤية ويميل أكثر إلى الخفة في التناول. ولعل «ثورة 25 يناير 2011: الثورة والثورة المضادة في مصر» للكاتب المصري خليل كلفت (منشورات المجلس الأعلى للثقافة - القاهرة) واحد من الكتب التي تميزت بالعمق والجرأة في تحليلها للثورة المصرية والوقوف على حقيقة الصراع بين الثورة والثورة المضادة حتى الآن. والكتاب في الأصل هو مجموعة من المقالات نشرها المؤلف خلال السنوات الثلاث الأخيرة. يرى خليل كلفت أنه لم يكن في استطاعة أحد أن يتوقع اندلاع ثورة شعبية هائلة كثورة 25 يناير، على رغم نضالات كبيرة سبقتها، وتردي الأوضاع الاجتماعية - الاقتصادية للشعب، ولا توقّع تطور الأحداث على طريق الانقلاب العسكري وتنحية الرئيس بصورة أقرب إلى السيناريو التونسي بدلاً من سيناريوات أخرى كانت واردة منها السيناريو الليبي أو اليمني أو السوري، وبالتالي كان اختيار طريق التصفية التدريجية للثورة بدلاً من طريق الحرب الأهلية. فالثورة المصرية – بحسب المؤلف - واحدة من الثورات السياسية النموذجية لشعوب العالم الثالث (إذا وضعنا نضالات حركات الكفاح المسلح جانباً) لأنها ثورة سياسية في سياق التبعية الاستعمارية. ولا شك في أنها ليست ثورة اشتراكية لأنها ليست ثمرة نضال ثوري للطبقة العاملة بقيادة حزب شيوعي ثوري. كما أنها ليست ثورة سياسية تتوج ثورة اجتماعية لتحويل مصر إلى بلد صناعي مستقل في الإطار التاريخي للنظام الاجتماعي الرأسمالي؛ ذلك أن حالة الثورة السياسية يسبقها تحول رأسمالي تدريجي طويل للصناعة الحديثة والسوق والتقدم العلمي والثورة الفكرية والأدبية التقدمية التي تمهد للتغيير الثوري، فلم تعرف مصر ولا بلدان ثورات الربيع العربي ولا بلدان العالم الثالث عموماً مثل هذا التحول نتيجة لوقوعها تحت سيطرة التبعية الاستعمارية في المستعمرات وأشباه المستعمرات. وعلى رغم أن الكتاب تغلب عليه نزعة تشاؤمية لمستقبل الثورة المصرية، إلا أن مؤلفه يرى أن الديموقراطية الشعبية من أسفل هي الثمرة النضالية التي تخرج بها الشعوب من ثوراتها الناجحة في كل مكان. وهي لا تعني أن المجتمع أو البلد صار ديموقراطياً، فالمجتمع الطبقي لا يمكن أن يكون ديموقراطياً، كما أن الدولة التي هي أداة في أيدي الطبقة الاستغلالية الحاكمة لا يمكن أن تكون ديموقراطية، بل لا مناص من أن تكون هذه الدولة ديكتاتورية. وتعني الديموقراطية الشعبية من أسفل، ببساطة، أن تمتلك الطبقات الشعبية أدوات النضال والحقوق والحريات التي انترعتها وصارت تمارسها، والإطار العام الديموقراطي الذي صارت تفرضه على الطبقة الحاكمة ودولتها ونظامها وتنظيمها للمجتمع. وتتمثل مكونات الديموقراطية من أسفل في الأحزاب المتعددة المستقلة عن سلطة ونظام ودولة الطبقة الحاكمة. هذه الأحزاب التي تفرض التعددية الحقيقية على البلاد وتتمثل في النقابات العمالية والمهنية المستقلة التي تدافع عن حقوق وحريات الطبقات الشعبية، وتتمثل في الصحافة الحرة التابعة للأحزاب والنقابات ومختلف الجماعات التي تنتمي إلى الطبقات الشعبية من العمال والفلاحين وفقراء الريف والمدينة، كما تتمثل في استقلال القضاء والتحقيق الفعلي لكل المطالب العادلة للقضاء، كما تتمثل في انتزاع مكاسب عينية كبرى مثل التحقيق الفعلي للحد الأدنى العادل للأجور المرتبط بتطور الأسعار وتحسين شروط العمل. يبقى القول إنه لا يمكن لأحد أن يحكم على الثورة المصرية بالفشل لمجرد أن من قاموا بها ليسوا مسيسين، أو أن هناك محاولات كثيرة جرت - وما تزال - لإجهاضها داخلياً وخارجياً، لأن التاريخ علمنا، بخاصة في ظل الموجات الثورية المتلاحقة منذ ثورة 25 يناير، أنه يصعب التنبؤ بما قد يُقْدِم عليه المصريون - العنيدون بطبيعتهم - إذا تعرضوا للظلم والقهر لفترات طويلة، خصوصاً في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية الذي تشهده مصر. * كاتبة مصرية