«كان الضوء يشع تحت دثار صيفي خفيف في غرفة النوم. مع ظلام ثقيل، بدا النور القليل للشاشة كثيراً وكاشِفاً. وتحت الدثار الخفيف، مدّت مراهقة يدها إلى أقصى ما تستطيع، ثم رفعتها إلى الأعلى قليلاً، فارتفع الدثار كأنه هرم صغير وهمي. لا لم أر هذه الصورة. ربما تخيّلتها. كلا. كلا. رأيتها ليلاً من نافذتي. لست واثقاً. هل تخيّلتها أم رأيتها؟ لكنها مدّت يدها. وتجمّع النور تحت الدثار عند حدود جسدها الذي لم يكن يغطيه سوى ثوب النوم الشفيف. لاحت ضحكة أيضاً على شفتيها. كيف رأيتها في النور الباهت - الساطع لشاشة جهاز يشبه الخليوي أو ال «تابلت»؟ الأرجح أنني شاهدت أشياء، واختلطت في مخيّلتي أشياء. لعبة العين والخيال والدماغ: شيء مألوف لكنه واسع الحيلة أيضاً. تبقى الصورة في خيالي: مراهقة ترسل «سيلفي» حميمة في عتمة الليل، متحديّة جغرافيا المنزل وجدرانه المسوّرة، بل متحديّة الخصوصية التي يفترض أنها تصل إلى أقصاها في غرفة النوم، داخل منزل الأهل، وتفصلها جدران حصينة ومسافات عن آخر يراها/ تراها على شاشة أخرى. ربما تتحدى الشاشة المتلقيّة عتمات وجدراناً وخصوصيات وأسواراً». ليس المقطع السابق اقتباساً من رواية أو مذكرات، ولا مشهداً في مسلسل تلفزيوني أو فيديو كليب. إنه مجرد وصف، لشيء لم يعد استثناءً. كم ممن قرأوا تلك الكلمات أحسوا بأنهم ربما رأوا ذلك المشهد، أو ربما تخيّلوا أنه يحدث عبر أيدي كثير من الشباب، ذكوراً وإناثاً؟ لعله ليست مجازفة القول إن التقاط الصور الذاتيّة «سيلفي» وتبادلها، صار جزءاً من المحادثة والتواصل بين الشباب. تكتب بالإنكليزية Selfie. وتشير إلى الصورة التي يلتقطها الشخص لنفسه بالكاميرا الرقميّة فيكون وجهه هو مركزها حتى لو ظهرت وجوه أخرى معه، خصوصاً عندما تلتقط تلك الصورة بكاميرا الخليوي. ومع انتشار خدمة بث الصور عبر «تويتر»، صار هذا النوع من الصور هو الأكثر تداولاً. وزاد في ذيوعها، وجود مجموعات أخرى من التقنيّات التي تعتمد على بثّ الصورة، مثل خدمة البحث عن الأشخاص باستخدام صورة الوجه على محرّك البحث «غوغل»، وكذلك الحال بالنسبة إلى موقع «فايسبوك» الذي أدخلها في عام 2013 أيضاً، فأثارت نقاشاً ضخماً عن الخصوصيّة تقاطع مع النقاش الهائل الذي أثارته تسريبات خبير المعلوماتيّة الأميركي إدوارد سنودن! ذوات الأفراد معرضاً وفنّاً ثمة نقاش واجب تجاه هذه الخطوة من موقع «فايسبوك». إذ إنها تحمل سلطويّة فظّة لأنها تسير باتجاه واحد من المركز في «فايسبوك» إلى الجمهور. ويزيد في سلطويتها أن «فايسبوك» أرفق هذه الخطوة بإطلاق محرّك بحث يعمل على النصوص «داخله». هل المقصود ب «الداخل» هو الرسائل التي يتبادلها الناس عبر بريد «فايسبوك»؟ لنتذكر أن الصورة التقليدية تاريخياً عن الأنظمة القمعية هي تلك التي تظهر مؤسسات الدولة وهي تراقب رسائل البريد الورقي للناس. وما زالت صورة القاعات التي تنتشر فيها أباريق يُغلى فيها الماء، كي يفتح بخارها للشريط اللاصق لمغلفات البريد الورق، هي الأكثر تكثيفاً في التعبير عن التوتاليتارية والاستبداد. إنه أمر حساس حقاً، ويحتاج نقاشات مستفيضة تماماً. سجّلت صور «سيلفي» معرضها الدولي الأول في لندن في العام المنصرم. هل تمثّل «سيلفي» فنّاً أم إنها ناتجة من تصرّف نرجسي، أم كلا الأمرين معاً؟ ربما توصّل بعض زوار المعرض البريطاني ل «سيلفي» إلى إجابة عن هذه الأسئلة. إذ رعت كايل شايكا ومارينا غالبرينا، معرضاً لصُوَر «سيلفي» ضمن «معرض فن الصُوَر المتحرّكة المُعاصرة» في لندن 2013. وصادف المعرض مرور 85 عاماً على ابتكار شخصية «ميكي ماوس» في الرسوم المتحرّكة. وقدّم أيضاً أفلاماً قصيرة ذاتيّة على طريقة «سيلفي» من صنع 19 فناناً من أوروبا والولايات المتحدة. ليست الصُورة الذاتية بظاهرة جديدة، إذ أشار موقع «معرض الصُوَر المتحرّكة» إلى أنّ التصوير الذاتي يحظى بإرث فني طويل. وأدرج بين روّاده الرسّام فان رين رانبرانت، وهو رسام أدمَن رسوم التوثيق الذاتي، وكوربيه الذي صُور نفسه على هيئة غجري لطيف، والرسام الذائع الصيت فانسنت فان غوغ، والمخرج المُبدع ستانلي كوبريك وغيرهم. ومع رواج الهواتف المزوّدة بكاميرا رقميّة، باتت صُوَر «سيلفي» رائجة بشِدّة، وتتهاطل سيولها على مواقع الشبكات الاجتماعية على الإنترنت. وتحدّثت مجلة «تايم» الأميركية مع شايكا وغالبرينا حول معرض «سيلفي». وقارنتا ال «سيلفي» برسم ال «بورتريه» الشخصي. ومن ينسَى رسم فان غوغ لنفسه بأذن مقطوعة؟ هل كانت «سيلفي» بريشة ولوحة قماش وألوان الزيت؟ وأشارت شايكا إلى أن صُوَرة «سيلفي» تتشابه مع رسم ال «بورتريه» الشخصي، مع بعض الفوارق. إذ تلتَقَط «سيلفي» في شكل ارتجالي وسريع، في حين تحتاج معظم الرسوم الذاتية إلى عمل فني مضنٍ. وخلصت إلى القول إن كلا الأمرين ربما يرتكز على الدوافع عينها، ما يجعلهما مثيرَيْن باستمرار. وهناك ترابط أيضاً بين «سيلفي» ومواقع التواصل الاجتماعي، خصوصاً مشاركة الصُوَر في «توتير» و «فايسبوك» و «إنستاغرام» و «سناب تشات» و «فاين» وغيرها. صورة واحدة حتى بوجوه عدّة يلاحظ أن «سيلفي» هي صُوَرٌ عرضيّة في غالبية الأحيان، يلتقطها الشخص بواسطة كاميرا يوجهها إلى نفسه عبر مدّ ذراعه أو النظر إلى مرآة، وهي تظهِر المُصوّر وَحدَه أو برفقة آخرين. وعندما تشمل «سيلفي» أشخاصاً كثراً، يشار إليها باسم «الصُوَر الذاتيّة الجماعيّة» Collective Selfie. وفي صيف 2013، أنتجت صحيفة ال «غارديان» مُسلسلاً مصُوّراً في عنوان «ثينكفلوينسر»، يستكشف مدى رواج ال «سيلفي» في المملكة المتحدّة. واستخدم المعرض اللندني شاشتين لعرض سلسلة من أشرطة «سيلفي» أيضاً، التي صُمّمت خصيصاً للمشروع، وتصل مدة كل شريط إلى 30 ثانية أو أقل. واحتفى المعرض بأعمال الفنانين: كبوني روجرز، ورولين ليونارد، وجيسون موسون ويانغ جيك، وليسلي كوليش، وجيس دارلينغ، وهم الذين تتراوح أعمالهم بين الاعترافات الشعرية على الإنترنت، وبين التعليقات المضحكة في شأن الميول الفضائحيّة والرسوم الذاتيّة التجريبية في الإعلام الجديد. وصُنِعَت 5 نسخ من أعمال كل فنان، وبيعت النسخة مقابل 500 دولار في المعرض. وقدّم المعرض اللندني أيضاً تطبيقاً تفاعليّاً يتيح إضفاء لمسات غرائبيّة على صُوَر «سيلفي».