ما معنى نقد الدولة في الشرق الأوسط العربيّ راهناً؟، ما معنى نقد سلطتها ونقد السياسات التي تتّبعها، الداخليّ منها والخارجيّ؟، وبالتالي، ما معنى السياسة انشغالاً بها أو اعتراضاً عليها؟. اللبنانيّون، مثلاً، أعادوا للمرّة المليون اكتشاف حقيقة ضعف الدولة والجيش حين اندلعت اشتباكات برج أبو حيدر الأخيرة. هكذا استعاد بعضهم تلك المعادلة الذهبيّة عن بلدهم، والقائلة إنّ الدولة نتاج التقاطع بين الطوائف الدينيّة. فإذا ما ضعف التقاطع، أو انعدم، ضعفت الدولة أو انعدمت. هذا ما رأيناه جليّاً في الحروب السابقة وفي انقسامات الجيش وتصدّع أجهزة السلطة. العراقيّون، اليوم، مع الانسحاب الأميركيّ من بلدهم، يستولي عليهم هاجس امتناع الدولة، أي هاجس البقاء على قيد الحياة نفسها، فيما القوى الفاعلة والمؤثّرة خليط من تناقضات الإثنيّات والطوائف والمناطق، وهو الخليط الذي يتنازل للقوى الخارجيّة عن قدر هائل من النفوذ هو احتياط افتراضيّ للدولة. الفلسطينيّون، من ناحيتهم، وفي ظلّ انقسامهم إلى قطاع غزّة وضفّة غربيّة، برهنوا كم أنّ الترجمة الوحيدة للاختلاف السياسيّ هي تمزّق الوطن والدولة ذاتهما. المسافة، إذاً، تكاد تكون صفراً بين الرأي والانفصال. لنقل إنّ ما فعله الفلسطينيّون، بقيادة «حماس»، كان، على بشاعته، رائداً وسبّاقاً: ذاك أنّ الكتل البشريّة الضخمة في المشرق العربيّ لا يستهويها البقاء على العيش المشترك المفروض، ولا تستهويها، من ثمّ، السياسة كأداة لتدبّر العيش المشترك هذا. وذلك ليس بسبب مشروع ما، إمبرياليّ أو صهيونيّ، لتقسيم المنطقة وتبرير وجود إسرائيل. إنّه الواقع الفعليّ لرغبات الجماعات التي عجزت، أوّلاً، عن إرساء إجماعات تقوم عليها دول، ثم، ثانياً، بلغت خلافاتها حدّاً يفيض عن ضفاف السياسة إلى العنف، وأحياناً، وإذا أمكن ذلك، إلى التطهير. المتمسّكون، اليوم، بالعيش المشترك هم، في أغلبيّتهم الساحقة، مغلوبون على أمرهم: إمّا لأنّ المشاريع التقسيميّة غير متاحة عسكريّاً، أو لأنّها غير ممكنة ديموغرافيّاً، وإلاّ فللسببين معاً. هكذا يعيش العراقيّون واللبنانيّون زواجاً غير سعيد فيما الطلاق ممنوع عليهم. ولنقل بصراحة إنّ الاستعمار مسؤول إلى حدّ بعيد عمّا وصلنا إليه، ليس لأنّه «جزّأ» المنطقة، بحسب قول خشبيّ لا تتوقّف عن ترداده الأدبيّات القوميّة، بل لأنّه وحّدها أكثر ممّا تحتمل جماعاتها وثقافاتها البدائيّة. لقد قامت هذه الوحدات بعيداً من كلّ إدراك لمعنى الوطن والدولة والسياسة والتعاقد السياسيّ. وكان شريك الاستعمار في هذه المسؤوليّة تعرّفنا إلى لون من الحداثة قبل أن نكون مهيّأين له: ففي عهود السلام الأهليّ، وفي ظلّ حدّ معقول من سلطة الدولة، تداخل السكّان المتعدّدو الطوائف والإثنيّات وهم يخدعون أنفسهم بأنّهم يتنقّلون في وطنهم. وما لبث أن تبدّى لاحقاً أنّ هذا الاختلاط أقرب إلى إيداع رهائن في أيدي أكثريّات دينيّة أو إثنيّة أخرى. قصارى القول إنّ مشكلاتنا الراهنة ليست سياسيّة، ولا هي طبعاً إيديولوجيّة، وبالتالي، لا نفع للسياسة في علاجها. إنّها مشكلات تكوينيّة لا يبدو أنّنا سنخرج منها مُكوَّنين.