خلال عام 2005 ومع اقتراب موعد الانتخابات العامة العراقية، اعرب الجنرال جورج كيسي، قائد القوات الاميركية في العراق آنذاك، عن تمنياته بقيام حكومة عراقية «معتدلة» تضم شتى اطياف العراقيين. كذلك اعرب عن امله بأن يكون ذلك مقدمة لانسحاب قسم مهم من قوات الاحتلال، والى تسلم العراقيين انفسهم شؤون الحكم والسياسة والأمن في بلادهم. واثارت هذه الافكار التي تحدث عنها كيسي استياء ادارة بوش وخاصة الصقور والمحافظين الجدد فيها. وانتقد جورج بوش شخصياً هذه التطلعات واعلن انها مجرد «تكهنات» ووجه توبيخاً علنياً الى كيسي بسببها. وكتب عدد من المتعاطفين مع سياسة بوش العراقية مقالات ينتقدون فيها موقف قائد القوات الاميركية في العراق ويشددون على مضار الانسحاب الاميركي من العراق آنذاك. ومن ابرز تلك الكتابات كانت مقالة كتبها وزير الخارجية الاميركية الاسبق هنري كيسينجر جاءت على شكل مقارنة بين تجربتي فيتنام والعراق تحت عنوان «ماذا تعلمنا تجربة فيتنام حول الانسحاب من العراق؟». ورغم مضي خمسة اعوام على تلك المقالة، فإنها لا تزال ذات اهمية ما دام صاحبها لا يزال يحتفظ بمكانته المرموقة في الاوساط الاميركية والدولية. وهي مهمة ايضاً لأنها تعكس الى حد بعيد نظرة التيار الاميركي الواقعي المحافظ الى قضية العراق. ثم انها مهمة لأنها تساعد على فهم موقف الزعماء الاميركيين المتعاطفين مع اسرائيل تجاه القضية العراقية وتجاه الاميركيين الذين عارضوا الحرب. في المقارنة بين الانسحاب من فيتنام وبين فكرة الانسحاب من العراق، يؤكد كيسينجر ان الانسحاب الاول كان ناجحاً، اذ ان الولاياتالمتحدة تمكنت، بين عامي 1969 و1972، من سحب قرابة نصف مليون جندي من الاراضي الفيتنامية. في غضون ذلك انخفضت نسبة الاصابات بين جنودها خلال تلك المرحلة من 400 في الاسبوع الى 20 اصابة فقط، بينما اصبحت سايغون وسائر مدن فيتنام الجنوبية اكثر أمانا وقتها من مدن العراق اليوم. وجنباً الى جنب مع هذه المتغيرات، وجد قادة فيتنام الشمالية انه لا بد من توقيع اتفاق سلام مع الولاياتالمتحدة والقبول بشروط كانوا قد رفضوها لمدة اربع سنوات. فما هي الاسباب التي ادت الى هذه المتغيرات؟ في الإجابة على هذه الاسئلة يقدم كيسنجر دروس فيتنام - او بالاحرى دروسه هو- الى الاميركيين الذين كانوا يطالبون بالانسحاب من العراق. الدرس الاول، هو انه لا بد من تحقيق انتصار عسكري حاسم قبل الانسحاب. على هذا الصعيد يقول كيسنجر ان القوات الاميركية حققت انتصارين حاسمين قبل ان تسحب عدداً كبيراً من قواتها: الاول عندما تمكن سلاح الجو الاميركي من «كسر ظهر القوات الفيتنامية الشمالية حينما شنت هجوماً شاملا على المواقع الجنوبية عام 1972». الثاني، عندما تمكنت القوات الاميركية من رد هجوم تيت الكاسح التي شنته القوات الفيتنامية عام 1968 في الجنوب. ويبدو وزير الخارجية الاميركية هنا ميالا الى المبالغة في تقدير اهمية النجاحات التي حققتها القوات الاميركية، فهو في كتابه «الديبلوماسية»، يتحدث بإسهاب عن فاعلية هجوم الفيتناميين الاخير حيث اكتسحوا ثلاثين مدينة فيتنامية جنوبية ومنها سايغون وتمكنوا من احتلال جزء من السفارة الاميركية فيها، بحيث «سجلوا انتصاراً كبيراً من الناحية النفسية والسياسية». ومهما يكن من امر، فإن ادارة بوش اخذت بالاعتبار هذا الدرس الفيتنامي، وسعت الى تحقيق الانتصار العسكري الحاسم المطلوب عبر تطبيق استراتيجية «الاندفاع» SURGE، وعبر سياسة «عرقنة» الصراع مع المقاومة. الا ان النتائج النهائية لمثل هذه الاستراتيجيات لم تظهر في فيتنام الا بعد الانسحاب الاميركي الكامل منها حيث انهارت كلياً استراتيجية «فيتنمة» الصراع مع هانوي والفيتكونغ. اما نتائجها النهائية في العراق فإنها تنتظر الانسحاب الاميركي الشامل من الاراضي العراقية. الدرس الثاني، هو ان تحقيق نصر ضد اعداء اميركا سواء في فيتنام او العراق يقتضي توحيد الصف الاميركي تجاه الحرب. وهنا يوجه كيسنجر لوماً مبطناً الى دعاة السلام الاميركيين الذين عارضوا الحربين الفيتنامية والعراقية، ويحملهم مسؤولية استيلاء هانوي على جنوب فيتنام ودمجه بالشمال، ومن ثم مسؤولية اضعاف الحرب الاميركية على العراق. وتظهر هنا ارهاصات الحرب الداخلية التي شنها البوشيون والمحافظون الجدد وغلاة اليمينيين في الولاياتالمتحدة على الليبراليين وعلى المعتدلين الاميركيين. فهؤلاء يرددون نفس الانتقادات التي اتى بها كيسنجر، ولكن بشراسة وعنف. اما الهدف الرئيسي من هذه الانتقادات وهذه الحرب على صعيد السياسة الخارجية، فهو تأجيج المشاعر المعادية للعرب وللاسلام، ومن ثم استمرار الاحتلال في العراق حتى السيطرة الكلية عليه. الدرس الثالث، هو انه لا بد من خلق اجواء سياسية مناسبة من اجل تفعيل دور القوات المحلية الحليفة للولايات المتحدة في القضاء على العدو المشترك. فقوات سايغون كانت تتكون، نظرياً، من 11 فرقة عسكرية، ولكنها لم تكن تتجاوز في تقدير كيسينجر ثلاث فرق، وذلك بسبب الانقسامات التي كانت تسيطر على هذه الفرق المتبقية. هذا الوضع لم يسمح لقوات سايغون ان تلعب دوراً مهماً في القتال ضد الفيتكونغ وضد قوات الشمال. بالمقارنة يقول وزير الخارجية الاميركي الاسبق إن الانقسامات الدينية والعرقية والمذهبية التي يعاني منها العراق تؤثر على القوات التابعة لحكومة بغداد وتمنعها من الاضطلاع بدور فاعل في ضمان الاستقرار السياسي وبسط سيادة هذه الحكومة على الاراضي العراقية. ما العمل اذن؟ اضافة الى الدرسين الاولين، يقترح كيسنجر خلق اجواء سياسية ملائمة ل «عرقنة» الصراع ضد المعارضة المسلحة عبر «اجتذاب زعماء من الطائفة السنية الى الحكم». ويتصور وزير الخارجية الاميركي الاسبق ان هؤلاء سيؤمنون تغطية كافية للعمليات العسكرية التي تضطلع بها القوات الحكومية. هذه النصيحة الاخيرة التي يوجهها كيسنجر الى اصحاب الرأي والقرار في واشنطن والى المعنيين بالشأن العراقي في الغرب تحدد بدقة اكبر الموقف الذي يدعو اليه، وهو استبعاد التفاوض مع معارضي الاحتلال، واستمرار الحرب في العراق و»عرقنتها» حتى يتم القضاء النهائي على المقاومة العراقية. تبريراً لهذا الموقف، يقول وزير الخارجية الاسبق ان القوات المعادية في فيتنام كانت تمتلك الاسلحة الثقيلة والمخابئ والمعسكرات في الدول المجاورة وما يقارب النصف مليون جندي مدرب، من هنا اضطرت واشنطن الى توقيع معاهدة سلام مع الفيتناميين، اما المقاومة العراقية فإنها لا تمتلك شيئاً من امكانات الفيتناميين، ومن هنا فإنه ليس من مبرر، في رأي كينسجر، للتفاهم معها، وما من سبب يحول دون القضاء عليها. لا ريب ان قدرات الفيتناميين العسكرية واللوجستية كانت تفوق قدرات المقاومة العراقية اليوم. ولكن قدرات الولاياتالمتحدة، هي الاخرى، كانت تفوق بكثير طاقاتها اليوم. لقد ارسلت الولاياتالمتحدة ما يفوق النصف مليون جندي الى فيتنام، اما اليوم فإنها ليست قادرة على ابقاء ربع هذا العدد في العراق. كذلك كانت اوضاع الولاياتالمتحدة الاقتصادية افضل بكثير مما هي اليوم مما سمح لها بتحمل الحرب في فيتنام لعدة اعوام، بينما تعاني اليوم ازمة اقتصادية كبرى. ان هذا التراجع في القدرات الاميركية لعب دوراً رئيسياً في سحب الجزء الاكبر من القوات الاميركية من العراق. وهذا التراجع في القدرات الاميركية سيضطر الولاياتالمتحدة الى سحب القسم الثاني من قواتها من العراق في نهاية عام 2011. من يريد للاميركيين الاستفادة من تجربة فيتنام، حري به ان ينصح الادارة الاميركية بأن تقف الى جانب اجراء مصالحة وطنية شاملة في العراق، او اجراء انتخابات جديدة حرة ونزيهة تحت اشراف حكومة محايدة وهيئة الاممالمتحدة، هذا فضلا عن التعجيل بالانسحاب من الاراضي العراقية. هذه «العرقنة» سوف تكون مقبولة في العراق وفي المنطقة. ما عدا ذلك فإن المؤشرات تدل على ان العراق مقبل على اوضاع صعبة، وعلى ان الكثير من الطاقات البشرية والمادية الاميركية سيغرق في الرمال العراقية المتحركة. * كاتب لبناني