صراخ الأطفال الممدين على اسرة زرقاء، والتعب الذي يظهر على وجوه الأمهات الساهرات ساعات طويلة... هذه هي الصورة التي يمكن نقلها من «مستشفى العلوية للأطفال» وسط بغداد. هذا المستشفى الذي يقع في منطقة صناعية تضج بأصوات المطارق وصياح الصنّاع، تبدو للوهلة الأولى وكأنها خالية من المرضى بسبب الهدوء السائد فيها. ولكن الواصل الى الردهات الداخلية حيث يرقد الأطفال، يطالعه شيء آخر... صراخ حاد من ألم وجوع. هناك، تتمدد الأجساد المريضة الصغيرة على الأرائك، تلازمها الأمهات والجدات اللواتي يراقبنها بخوف يدفعهن الى التسابق نحو اول طبيب يدخل الردهة ليطمأنهن على صغارهن المتعبين. تقول احدى الأمهات التي يشكو طفلها من التهاب حاد في الرئة، وهو يرقد في المستشفى منذ ايام، انها اهملت سعال طفلها واعتقدت ان التغير المفاجئ في طبيعة الجو هو السبب في سعاله. وبعد ايام، تطورت حالته الصحية حتى بات يمتنع عن النوم والطعام فعرضته على طبيب مختص نصحها بإدخاله مستشفى الأطفال. وتضيف: «لقد أنهى الليل وهو يسعل، ولم أتمكن من فعل شيء له سوى البكاء. ولولا ان الطبيب الخافر (المناوب) قام بتفقده ومنحه علاجاً لما استطاع النوم عند الفجر». ام يوسف (31 سنة)، تقضي الوقت في البكاء والشكوى، وكيل التهم للأطباء لأنهم يرفضون اجراء عملية جراحية لطفلها المصاب بالتهاب السحايا الدماغية. تقول: «لا اعلم لماذا يرفضون اجراء العملية وينقذون طفلي. أليسوا اطباء وهم المسؤولون عن شفاء المرضى؟». اما الطبيب الذي يحاول تهدئة الأم، ويؤكد لها ان صحة طفلها لا تحتمل اجراء الجراحة الآن، فيقول ان الأم اكتشفت وجود مشكلة في دماغ طفلها بعد الولادة وراجعت احدى الطبيبات التي طالبتها بإدخاله المستشفى وإجراء العملية. لكن الأم رفضت واعتبرت ان وضع ابنها لا يستدعي الجراحة، وعندما تطور الأمر وتضخم رأس الطفل أكثر من المعتاد، جلبته الى المستشفى وتم سحب بعض «الخراج» من الدماغ، لكن حاله الصحية سيئة جداً ولا تحتمل اجراء عملية، مبيناً ان الأطباء ايقنوا ان الطفل لن يعيش اكثر من ايام معدودة. ويؤكد ان غالبية الأمهات يجلبن أطفالهن الى المستشفى بعد فوات الأوان ولا يراقبن وضعهم الصحي في شكل مستمر عند الأطباء. فبعضهن يعتمد على الصيدلي والمضمد الصحي في التشخيص، ولا سيما أولئك الأمهات غير المتعلمات من سكان القرى البعيدة. وبسبب بعد المسافة، لا يجلبن اطفالهن الا في حال تعرضوا لانتكاسة صحية حادة، تضع الأطباء في وضع حرج. وعلى رغم اعتراف الطبيب بانخفاض نسبة الوفيات بين الأطفال في العامين الماضيين في بغداد، يبقى ان الصغار هم الأكثر عرضة للإصابة بالأوبئة والأمراض المعدية، فضلاً عن تعرضهم للحوادث المنزلية والمفاجئة اثناء عملهم في الشارع في سن مبكرة. ردهة اخرى تبدو اكثر هدوءاً من الأولى، ولو انها لا تخلو من أنين بعض الأطفال، لكن قلة الأطفال الراقدين فيها تمنحها نوعاً من السكون الموقت. وتعترف غالبية الأمهات في هذه الردهة بأنهن جلبن اطفالهن في شكل متأخر الى المستشفى، اما لعدم ادراكهن خطورة المرض او لانشغالهن باعمال المنزل وهموم الحياة الأخرى. ويؤكد سليم الجشعمي اختصاصي طب الأطفال أن هناك نوعين من الأمهات: الأول امهات مهووسات بصحة الأطفال يجلبنهم الى المستشفى او العيادة لمجرد البكاء او الامتناع عن الرضاعة او اي سبب بسيط. ولا يقتنعن برأي الطبيب، فيعتنين بأطفالهن وفق مقاييس صحية متطرفة. والنوع الثاني أمهات مهملات لا يعرن اهتماماً للوضع الصحي للأطفال، الا بعد تفاقم اوضاعهم واستفحال معاناتهم. ويرى الجعشمي ان التوازن بين الحالتين امر مهم للحفاظ على صحة الأطفال من الأمراض المعدية والسريعة الانتقال، ولكنه امر نادر بين النساء اللواتي يعتبرن انفسهن اكثر خبرة من الأطباء في علاج الأطفال وتحديد درجة خطورة الأمراض!