في كل صيف يُتحفنا بعض الكتّاب بسرد تفصيلي لرحلاتهم الخاصة في مدن العالم المختلفة، وكنت أشرت لذلك في مقال سابق، ومنذ ذلك الحين يزودني بعض القراء بمقالات من هذا الصنف، وقد قرأت عجباً. الزاوية الصحافية ملك للقارئ، وليست مساحة إعلانية خاصة بالكاتب، فالأول عندما يشتري الصحيفة من حر ماله، أو يدلف إلى موقعها الإلكتروني – وهو في أجواء لاهبة الحرارة - يفعل ذلك للإطلاع على خبر جديد أو تحقيق مميز، أو مقال يزوده بمعلومة جديدة، أو يناقش همومه أو هموم المجتمع الذي يعيش فيه، وآخر ما يريد الاطلاع عليه هو الكتابات الاستعراضية التي يسهب أصحابها في وصف الفنادق والمنتجعات والمقاهي التي يكتبون منها في مدن المطر والخضرة والوجه الحسن، وهذا يهون إذا قارناه في من يصف رحلته «الخاصة جداً» مشفوعاً بقصص الأبناء والأصدقاء والمبالغة في مناقب الشعوب الأخرى، وجلد الذات والوطن وأهله وأخلاقهم وقيمهم بلا هوادة. من الطرائف في هذا الخصوص ما ذكره أحدهم في سلسلة مقالات تصف التعامل الراقي للإنسان الغربي، أياً كان جنسه أو لونه أو عمره، مع مقارنة تثبت انعدام مثل هذا السلوك في مجتمعنا! فكل ما لديهم رائع واستثنائي، وكل الناس هناك مؤدبون يبدؤونك بالسلام ويسعون لخدمتك بغض النظر عن جنسك أو لونك أو دينك، ولم يبق إلا الزعم بأنهم يتسابقون إلى استضافتك في أفخم الفنادق والمطاعم على حسابهم الخاص! يؤسفني أن أقول إنني قضيت أكثر من 15 عاماً في بلاد الغرب، ومع الاعتراف بالفارق الهائل بين السلوك الفردي لتلك الشعوب وبيننا، والاعتراف بأنها مجتمعات متقدمة تخضع لنظام مدني مؤسساتي ضارب العمق، إلا أن هذا لا يعني أن شعوبها «كاملة الأوصاف» من دون زلل، فلديهم مثل ما لدينا من الهنات، والنفس البشرية هي عينها في كل زمان ومكان. الغريب في الأمر أن «الكتاب» الذين يعيروننا بسلوكنا غير السوي، مقارنة بسلوك «الشعوب الأخرى وبالذات الغربية»، هم من الصنف الذي لم يتعرف على العالم الغربي إلا أخيراً ولمدد محدودة جداً، فلم أقابل حتى الآن أحداً قضى وقتاً طويلاً في المجتمع الغربي إلا وكان منصفاً في وصف المناقب والمثالب هنا وهناك. لا أدري ماذا سيكون شعور الكاتب الذي انبهر بسلوك الإنسان الغربي المتحضر في ما لو سافر إلى إحدى بلدات ولاية ألاباما أو ميسيسيبي في عمق الجنوب الأميركي - كما فعلت أنا منذ زمن - ثم قال له أحد الأميركيين المتحضرين من ذوي الشعر الأشقر والعيون الزرقاء: «انج بنفسك فالناس هنا لا يحبون الغرباء»، أو لو أنه تحدث مع انكليزي «معتد» من أحفاد تشرشل، أو فرنسي يرى أنك إذا لم تكن فرنسياً أصيلاً فأنت ناقص الإنسانية مهما كانت منجزاتك التي قدمتها للبشرية. نعم الغربيون أناس متحضرون جداً، ولكن يوجد بينهم العنصري والجاهل والشرس الطباع، وفي المقابل يوجد في قومنا من يبتسم في وجهك ويبدؤك بالسلام، ومن يسعى لخدمتك، فالمسألة نسبية ولا تستدعي كل هذه السوداوية والإحساس بالنقص أمام الآخر. وختاماً، أرجو من زملائي الكتاب أن يراعوا مشاعر القراء الذين يوجد من بينهم «العاطل عن العمل» والفقير المحبط، الذي لا يقوى على السفر إلى مدينة أخرى داخل الوطن، ناهيك عن الخارج، لأن آخر ما يريد هؤلاء هو من «يتعالى» عليهم ويعيرهم بسلوكهم السيئ. خاطرة: لا شيء يحزن إلا أصحاب المبادئ «قليلة الدسم»، الذين يكون صوتهم الأعلى عند الحديث عن المثل العليا، ولكنهم في الحقيقة «أفاكون» ينطبق عليهم ما قاله المفكر علي الوردي في: «أن الإنسان يتحدث عن العدل وأهميته في رفاهية الشعوب، ولكن متى ما تعارض هذا «العدل» مع مصلحته الخاصة فسيكون أول من يكفر بهذه القيمة الإنسانية العظيمة». أصحاب المبادئ «الحقيقيون» نادرون، وذلك لأن الثبات على المبدأ له ثمن مرتفع جداً لا يقوى عليه إلا «الكبار». [email protected]