طالما شعر كبار السن في الرغبة بالعودة إلى الماضي، ولكن ما إن يحل شهر رمضان المبارك حتى تزداد لتصبح حنيناً جارفاً، لا يتمالكون معه إلا التنفيس بالحديث تارة وبترك أعينهم تذرف ما شاءت من الدموع تارة أخرى، وها هو التسعيني علي بن محمد يجلس على عتبة منزله في إحدى القرى في منطقة جازان، مشعلاً فانوسه، وواضعاً أقداح الشاي على طاولة تزينت بألوان وأوان قديمة يعيش معها تلك الأجواء المخزنة في الذاكرة. وقال الجد علي: «كان سكان منطقة جازان قديماً يبتهلون بقدوم شهر رمضان المبارك ويستقبلونه بالتهاني والتبريكات وتكون تهنئتهم بلهجة واحدة وهي (شهر مبارك) فيرد المهنأ (علينا وعليك بالخير والبركة) ويقومون بالحديث عن أحوالهم». وفي سؤال عن سبب انهمار دموعه أثناء الحديث، فقال: «تذكرت أيام طفولتي، وكيف أن جميع أهلي وأقاربي يصومون ويحتفلون بالأعياد سوياً، وقد ماتوا جميعهم ولم يبقَ سواي»، وأضاف: «كنا نستقبل الشهر الكريم مع والدي ونذهب معه إلى مدينة جازان على الجمال والحمير قبل صلاة عصر أول يوم في رمضان فنصل إلى المدينة مع الإفطار، وبعده نذهب للسوق ونشتري أغراض المنزل الخاصة بالشهر الكريم، ثم نبيت إلى الصباح لنعود إلى منزلنا». وأشار إلى أن الأكل كان من الإنتاج المحلي من ألبان الأبقار والخضروات التي تزرع في المزارع من الأمطار كالملوخية والرجلة والشدخ والفجل، إلى جانب الشمام (الحبحب) الذي يتم قطفه ووضعه في التنور لحين استوائه ليشكل وجبة لذيذة مع الخبز واللبن، إضافة إلى الأغنام والأبقار التي يتم الاستفادة من لحومها ومشتقات الحليب كاللبن والسمن والزبادي، مشيراً إلى أنه لم يوجد وقتها مصدر للطبخ إلا الحطب والتنور. ولفت إلى أن برنامج الأهالي في رمضان قديماً يبدأ بالإفطار ثم أخذ غفوة إلى أذان العشاء وبعد أداء صلاة العشاء والتراويح يعود الناس للنوم حتى وقت السحور، لتستيقظ النساء منتصف الليل لحلب البقر وإشعال التنور لإعداد الخبز من الدخن أو الحب الأحمر أو الذرة، ليقمن بعدها بإخراجه وقت السحور وخلطه مع لبن البقر ليشكل وجبة سحور رئيسة للأسرة الجازانية، مشيراً إلى أنه في أحيان أخرى تقوم الأم بطحن الحبوب بعد التراويح لعمل الهريسة مع اللحم. وقال: « لم تكن الكهرباء متوافرة في السابق، فإضاءتنا الوحيدة تعتمد على الفانوس الذي نستخدمه من بعد صلاة المغرب إلى بعد صلاة العشاء، لنطفئه وننام، بعكس الناس الآن الذين يسهرون للصباح»، ويضيف: «كنا نعتمد في إفطارنا وسحورنا على صوت المدفع، ولكون المنطقة لم يكن فيها البنايات العالية والشركات والمصانع كان يأتي الصوت مدوياً، إذ كان السكن يقتصر على بنايات العشش من القش والجريد، ولم يكن يمتلك العريش إلا الأغنياء، فيما العامة كانوا يبنون بما يسمى ب«الخدروش والصبل» من القش و«القعادة» من الحصير التي تشكل الجلسة الرئيسة لأهالي المنطقة.