المقارنة بين التحقيق الاستخباري الناجز وبين التحقيق القضائي والجنائي الطويل وغير الناجز الذي توالى عليه قضاة تحقيق محترفون تدل، من غير إعمال الذهن، الى الفرق بين التحري القضائي وبين الاستطلاع والرصد الاستخباريين. فشاغل التحري القضائي هو مسرح الجريمة المباشر، الجغرافي والدرامي (الأدوار والفاعلون والآلات تمهيداً للجريمة، وفي أثناء ارتكابها، ونتائجها والتصدي للنتائج). وما أكب عليه التحقيق الجنائي الدولي، أولاً، هو هذا المسرح، وبنيته ونسيجه من داخل. و «التحقيق» الاستخباري لا يعنيه مسرح الجريمة إلا على سبيل التمثيل والكناية واستكمالاً للقياس. و «تقرير» حسن نصرالله ينحو، في المسألة، نحو بعض «الجنرالات» اللبنانيين الذين ظن فيهم بعض قضاة التحقيق الدولي ضلوعاً في المسؤولية عن الجريمة. فهم، كذلك، حسبوا أن مسرح الجريمة لا شأن له، وليس المدخل الى التحقيق. فأمر بعضهم الجرافات بأعمال الردم والتمهيد قبل الفحص والتقصي. وجزم بعضهم الآخر بأن معرفة هوية القاتل، وسائق شاحنة «الميتسوبيشي»، مستحيلة، وطوت «سرها» (وهذا سر آخر) قوة «انفجار قرابة الطنين من المتفجرات»، على قول «خبراء» (والخبرة سمة عالية) استشارهم جنرال استخباري متمرس. وتنصلوا كلهم، ومن ورائهم رعاتهم، من تبعتهم عن سلامة الرجل. والأفعال والأقوال هذه ليست أدلة ولا بينات على اشتراك في الجرم - وهذا ما قضت به المحكمة الى اليوم - ولكنها قرينة على نهج في فهم الاستقصاء. وهذا النهج يزدري «مادة» الجريمة، والفعل عموماً، وينكر قوتها أو قدرتها على الدلالة، وينكر تالياً ضرورة الامتثال لدواعيها. وابتداء رواية الخطيب ب «حادثة» أحمد نصرالله في 1993، وحمل الخبر على بداية «زرع» و «إشباع» نفسيين يعود إليهما، والى فشوهما وعدواهما، ميل جهاز المحكمة الدولية المختلطة المفترض الى توجيه التهمة الى «عناصر» (أو كوادر) من الحزب الخميني المسلح والأمني - هذا الابتداء آية تخطٍ ل «مادة» الجريمة، وتجاوزها الى «الصراع العربي - الإسرائيلي» من غير وسيط. ويحمل الإنكار، وصنوه التخطي والتجاوز، صاحب «التقرير» على تهمة التحقيق القضائي الدولي بتعمد إهمال مادة جنائية لم يعلم هو وأصحابه بها إلا في 2009. وذلك غداة مضي أربعة أعوام على الجريمة، وتواتر أخبار صحافية وإعلامية سياسية عن توجيه تهمة الضلوع في الجريمة السياسية والإرهابية الكبيرة الى بعض محازبي الجماعة الخمينية. وما يقوله «التحقيق» المضاد في مسرح الجريمة نفسه هامشي. ويقتصر على تأملات استخبارية في الطرق الساحلية ومحاذاة البحر، وفي الطرق السوية والمنعطفات، والسرعة والبطء، والمعلومات التنفيذية والمعلومات السياحية. والضعف الذي لا يتستر عليه دفق الصور والأخبار والتفاصيل، ومعظمها نافل وبعضها مصطنع ومغلوط، هو الافتقار الى مرجع أو إطار جامع تقاس عليه الصور. فدلالة هذه الصور عصية على الفهم والتعليل ما لم يعلم محلها، كماً ونوعاً ومادة، من كلٍ مفترض. فجواب سؤال «المحقق» الاستخباري: «في كل هذه المناطق التي يستطلعها الإسرائيلي هل تعرفون مراكز لحزب الله أو المقاومة أو بيوتاً لقيادييه أو أماكن تجمع له؟»، الجواب عن السؤال بالنفي لا يقود الى إثبات تعقب «الإسرائيلي» رفيق الحريري أو ابنه سعد الحريري أو سمير جعجع أو ميشال سليمان أو جان قهوجي، إلا إذا حوى أرشيف «المحقق» حسن نصرالله أرشيف الاستعلام والاستخبار الإسرائيليين تاماً. وهذا ما لا يزعمه الرجل. فما لا صور له في الأرشيف الجزئي والمتقطع الذي يملكه الاستخبار المحلي هو الكثرة الكاثرة من المواقع المفترضة «أمنية»: «أنا أمين عام من قبل الحرب ليس لدينا صورة لطائرة استطلاع إسرائيلية تقوم بتصوير منزلنا في حارة حريك...». والسؤال: «فهل نستطيع أن نقول انها لم تصور! فكيف جاءت وقصفتهم في الحرب؟»، هذا السؤال يستتبع سؤالاً يتمم السؤال الأول: هل نستطيع القول أن كل ما صورته طائرات الاستطلاع الكثيرة والمتزامنة الطيران منذ أعوام، ووقع بعضه بيدنا وحفظه أرشيفنا، يستثني مواقع أخرى وأشخاصاً آخرين؟ والجواب عن السؤال هذا، على خلاف صنع «المحقق» المرتجل والمستعجل، مستحيل. فهو يقيس معلوماً، الأرشيف المتوافر الجزئي، على مجهول، الأرشيف كله. وكيف نعرف دلالة تصوير منطقة السان جورج إذا لم يكن التصوير تخصيصاً للمنطقة؟ وكيف يعرف ان المنطقة خصت بالتصوير، وأن تصويرها كان «تنفيذياً»، في المصطلح التقريبي، إذا جهلت المناطق الأخرى التي صورت، وافتقر الأرشيف المتاح الى صور مناطق صورت، على وجه قاطع، وقصفت؟ والقول في هذه الحال رمي في عماية. وهو يبني على افتراض إحاطة، تدغدغ نرجسية الجماعة العميقة، ونرجسية الأفراد البعيدة الغور. ولكنه (القول) لا يصلح ركناً لرابطة سياسية واجتماعية وطنية يتشاطرها أهل كيان سياسي وطني. ولعل هذه المسألة هي القلب الأعمى للاحتجاج الاستخباري و«السياسي». فهو يفترض، على مثال السابقة الأسدية (السورية)، أن قطبي النزاع أو الصراع، «المقاومة» الخمينية المسلحة واسرائيل، تستوفيان مادة السياسة، والحياة العامة والخاصة في لبنان. وقضت السابقة السورية، على نحو ما صاغها إميل لحود الرئيس السابق في خطاب قسمه، بتقسيم اللبنانيين «سوريين»، مساراً ومصيراً، و «اسرائيليين». وفي كلتا الحالين تبدد القسمة اللبنانيين ودولتهم ومجتمعهم، وتلغي نواة هويتهم المستقلة، وتعرفهم أنفسهم جماعة متماسكة. وعلى خلال الزعم السوري العروبي بالاسم، والزعم الخميني «المقاوم» اليوم، يجوز تماماً للبنانيين رفض اسرائيل وسورية، أو رفض اسرائيل و «المقاومة الإسلامية» وحزبها، معاً لأسباب ومسوغات لبنانية. فمن يعارضون الجماعة الشيعية المسلحة والأمنية، وقد يصلونها الكراهية والعداء المريرين، يدعوهم الى رأيهم ونهجهم ما تفعله الجماعة فيهم، جماعات وأفراداً ومؤسسات. فما ينكرونه أشد الانكار هو سياستها العصبية والثأرية، وتقديمها الدمج والتكتيل على الرأي والحكم، وتوسلها بالعصبية والثأر الى استيلاء أصم، وتأليهها القوة والدم والموت، وازدراؤها الهيئات التمثيلية المختلطة والحقوق المدنية والسياسية والانسانية، وتربعها في صدارة ولاية لا رقابة عليها، وإعدامها مواطني الجماعات الوطنية والمواطنين وتجاربهم واختباراتهم، ورطانتها بلغة جوفاء تختصر البشر وتواريخهم في رسم هزيل. وهذه الجماعة تعلن على الملأ روابطها بنظامين سياسيين وإيديولوجيين، السوري والإيراني، صرف الأول أربعة عقود في السلطة والثاني ثلاثة عقود. والحصاد في الحالين، مروع ومخيف. والسياق السياسي الذي يرسمه المحاضر، أو يقر به، يغفل عن عوامل السياق كلها، ويحكم بالإلغاء في السياسات الوطنية. وسمتها المعلمة هي بناء أجهزة سلطة إدارية واستخبارية عنيفة وقاهرة وفاسدة محل الدولة الوطنية الفاعلة والجامعة والمتنازعة.