تطرح شركة «آر إي أم» موضوع هواتف «بلاك بيري» من زاوية التقنية، ما يلقي بقفاز التحدي في وجه الدول التي دخلت في مفاوضات مع هذه الشركة في خصوص شبكات هواتفها «بلاك بيري» المثيرة للجدل. ويتحدث مدير شركة «آر إي أم» بوضوح عن ان كل ما يجرى تداوله على الإنترنت يجرى بطريقة الشيفرة. ويغفل أن كثيراً من النقد في الغرب وُجّه الى شركات كبرى لهذا السبب بالتحديد، ما يعني أن امتلاك الشركات لشيفراتها يهدد حريات الجمهور وكذلك القدرة على الإبداع. ويبتعد مدير «آر إي أم» عن الحقيقة عندما يقول ان كل ما على الشبكة مُشفر، بمعنى امتلاك تلك الشيفرة من جانب الشركات. أبسط ما يصدم هذا الإنكار، هو أن بروتوكول الإنترنت (الذي تدار عبره موادها كافة) مفتوح المصدر، وشيفرته متاحة ومعروفة كلياً، بفضل سعة أفق مبتكره تيم بارنز لي؟ ألم تسمع شركة «آر إي أم» بالنُظُم والتطبيقات المفتوحة المصدر؟ ألا تعرف أن الموقع الإلكتروني للبيت الأبيض يدار بنظام «دروبال» Drupal المفتوح المصدر؟ يبدو أنها مرّة أخرى المعضلة العربية المزمنة: لا جدوى من التعامل مع العالم المعاصر، من دون الخوض في تملّك التقنية وتفاصيلها، لأنها المساحة التي يصنع فيها المستقبل فعلياً لهذه المنطقة. «مرحباً حبيبي... هل تحاول الاتصال... انا احاول ارسال «ماسج» من دون جدوى... خدمات «بلاك بيري» توقفت في الإمارات...». تشكّل هذه الكلمات مطلع أغنية بالانكليزية يتداولها الشباب المقيمون في دولة الإمارات العربية المتحدة عبر مواقع مثل «يوتيوب» و «فايس بوك»، منذ اعلان «هيئة تنظيم الاتصالات» تعليق خدمات «بلاك بيري» اعتباراً من تشرين الاول (اكتوبر) المقبل، لدواع «أمنية» واجتماعية. وفي مقابل هذه الاغنية التي رُكّبت كلماتها على ألحان أغنية عالمية مشهورة، أظهر استطلاع للرأي اجرته مؤسسة «يوغوف سيراج» شمل 750 مقيماً في الإمارات، ان ربع هؤلاء يؤيدون قرار وقف خدمات «بلاك بيري»، وأكدوا قلقهم إزاء تخزين بياناتهم من شركة خارج الدولة، لكونهم لا يملكون الحق القانوني لمقاضاة من يخترق خصوصياتهم. وأظهر الغربيون المقيمون في الإمارات رأياً مغايراً. والمعلوم أن خدمات «بلاك بيري» تتضمن إرسال ما يتبادله مستخدموها في مراسلاتهم، وبطريقة مُشفّرَة، إلى خوادم («سيرفر» Server) الشركة الموجودة في كندا، ما يتيح لبعض الأفراد ارتكاب تجاوزات بعيداً من المساءلة القانونية. الشيفرة... الأمن... الخصوصية تضم الإمارات اكثر من 500 ألف مشترك في خدمات «بلاك بيري». ومنذ شهور، تحاول هذه الدولة إقناع شركة «ريسيرش إن موشن» Research In Motion («آر أي أم» RIM) بإعطائها الحق في فك تشفير هذه البيانات وإدارتها من داخل الإمارات، بحيث يمكن التدخل في حال حدوث تجاوزات لها عواقب خطيرة على الأمن الوطني، في شكل سريع. لكن الشركة الكندية لا تعطي أي حكومة حق فك تشفير هذه البيانات من مبدأ الحفاظ على الخصوصية. ولا بد من الإشارة إلى أن إيقاف خدمات «بلاك بيري» يفقد هذه الهواتف تميزها، ويجعلها خليويات عادية تعمل على إجراء المكالمات وتبادل الرسائل النصية. وقد يشكل هذا القرار عند تنفيذه صفعة مؤلمة جداً للشركة الكندية، كما يؤثر في عائدات شركتي الاتصالات في الإمارات، وهما «اتصالات» و «دو». وتمثّلت الصفعة الاولى للشركة الكندية، في تأجيل إطلاق أحدث هواتف «بلاك بيري» في الإمارات، إلى أجل غير مسمى. ففي مطلع الشهر الجاري، أرسلت الشركة دعوات للإعلاميين لحضور مؤتمر صحافي مخصّص للكشف عن هاتف «بلاك بيري-بيرل 9105» Black Berry Pearl 9105. ويبدو أن هذا الهاتف لن يرى النور في الإمارات، إلى حين حدوث توافق بين هذه الشركة والدولة. وعلى رغم إصرار الإمارات على مطلبها، أكّدت مصادر مطّلعة ل «الحياة» أنها تركت الباب مفتوحاً للحل، إلا أن «آر إي أم» مستمرة في رفضها فك تشفير البيانات، على غرار ما تتحدث عنه وسائل الإعلام في دول خليجية أخرى كالسعودية. وكذلك أشارت هذه المصادر إلى أن الحكومة رفضت قبول عرض «آر إي أم» بمنح الإمارات حق السيادة على بضعة آلاف من هواتف «بلاك بيري»، ولا يشمل تلك الهواتف كلها، مع ترك حرية اختيار تلك الهواتف للحكومة الإماراتية. واشترطت الشركة ان تتخلى الإمارات عن حقها في المطالبة بالسيادة على أجهزة «بلاك بيري» وتطبيقاتها المستخدمة داخل أراضيها، وكذلك ضمان عدم إيقاف خدمات ذلك الهاتف. وأشارت دولة الإمارات العربية المتحدة إلى أنها لا تريد حق السيادة على عدد محدود من أجهزة «بلاك بيري»، إنما تريد ممارسة حق السيادة عليها جميعاً وفرض قوانينها وتشريعاتها على ما يدور داخل الدولة، ومنع وقوع أي ضرر يمكن أن يحدث جراء استخدام ذلك الجهاز. ويلاحظ تزايد مخاوف الدولة كثيراً من إمكان استخدام تطبيقات «بلاك بيري» في تنفيذ أعمال إرهابية وتخريبية على أراضيها، فضلاً عن إمكان إفساده القيم والعادات والتقاليد المجتمعية الإماراتية الأصيلة. وقبل أيام، أوضحت «هيئة تنظيم الاتصالات» في الإمارات أن تشغيل خدمات هواتف «بلاك بيري» يجرى حالياً خارج نطاق السلطة القضائية للتشريعات الوطنية، مضيفة أن خدمة «بلاك بيري» تعتبر الوحيدة التي تصدر عبرها معلومات المستخدمين وبياناتهم، أفراداً وشركات، إلى خارج الدولة بصورة مباشرة. وفي وقت سابق، أبرمت «آر أي أم» مجموعة صفقات ومساومات مع حكومات دول عدة هدّدت بإغلاق استخدام خدمات هاتف «بلاك بيري» على أراضيها. ونجحت «آر أي أم» في الحصول على اتفاق يسمح باستمرار تطبيقات «بلاك بيري» في هذه الدول، مقابل إعطائها حقوق الاطلاع على شيفرة الخدمات وخوادم الهاتف نظير دفع مبالغ مالية. وأبرز مثال على ذلك ما حدث مع الولاياتالمتحدة، بعد تهديد الاخيرة بإغلاق خدمات الهاتف، ما دفع «آر أي أم» للتنازل واسترضاء الولاياتالمتحدة. ظلال قاتمة ليد الموساد انتشرت إشاعات في الإمارات، تتحدث عن ان تشدد الدولة في مطلبها بالسيادة على هواتف «بلاك بيري»، جاء بعد اغتيال القائد في حركة «حماس» محمود المبحوح على أراضيها من جانب جهاز «الموساد» الاسرائيلي قبل بضعة اشهر. وتحدّثت إشاعات أخرى عن اسباب من نوع آخر، مثل استخدام «بلاك بيري» الدعوة الى تظاهرة ضد قرار رفع سعر البنزين في الدولة. وقد نفت السلطات الإماراتية هذه الإشاعات. وأشارت الى ان الأمر يتعلق بقرار سيادي. وأكّد المدير العام لهيئة الاتصالات محمد الغانم، في تصريحات تداولتها وسائل الإعلام أخيراً، أن «لا علاقة للرقابة بالقرار... ما نتحدث عنه أن التعليق جاء لضعف الالتزام بتشريعات هيئة الاتصالات الإماراتية». وتفرض الإمارات، ودول مجلس التعاون الخليجي، رقابة على شبكة الإنترنت عبر برامج تحجب مواقع معينة ذات علاقة بالمعتقدات الدينية والإباحية الجنسية، وبعض المواقع السياسية. ويشار الى أن الإمارات أطلقت خدمة «بلاك بيري» عام 2006، قبل سنة من إصدار التشريعات التي تضمنتها رخصة السلامة والطوارئ والأمن الوطني عام 2007. وكاد قرار الإمارات تعليق خدمات «بلاك بيري»، أن يُشكل أزمة بين الولاياتالمتحدةوالإمارات، إلا ان وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، أكّدت ان الولاياتالمتحدة تجري محادثات فنية مع دولة الإمارات العربية المتحدة ودول اخرى، في شأن الحظر الوشيك لخدمة التراسل عبر هاتف «بلاك بيري». وقالت: «نأخذ وقتاً للتشاور وتحليل المجموعة الكاملة من المصالح والقضايا المطروحة، لأننا نعرف انه يوجد مبعث مشروع للقلق الامني، لكن يوجد ايضاً حق مشروع لحرية الاستخدام والوصول للخدمة». جاءت تصريحات كلينتون بعدما هاجم مايكل لازاريديس الرئيس التنفيذي والعضو المؤسس ل «آر إي أم»، الخطوات التي اتخذتها دول عدّة، بحظر بعض خدمات أجهزة «بلاك بيري»، مؤكداً أن الكشف عن الشيفرة يعني أنه يعطي الضوء الأخضر ل «التنصت» على المستخدمين. وفي تصريحات نشرها الموقع الإلكتروني لجريدة «وول ستريت جورنال»، شدّد لازاريديس على أن الأمر يتعلق بطبيعة الانترنت، قائلاً: «كل شيء على الشبكة مُشفّر». وكذلك أعرب عن اعتقادة بأن المسألة لا تتعلق بجهاز «بلاك بيري» حصراً، وأن من يفتقد القدرة على التعامل مع الإنترنت، عليه أن يتوقف عن استخدام الشبكة! وبيّن أنه يعتقد أن الشركة ستنجح في تجنب تهديدات الحظر، قائلاً: «لقد تعاملنا مع مثل هذه المشكلات في السابق، وسنتوصل إلى حل إذا كان هناك نقاش عقلاني». وعلى رغم أن «آر أي أم» تُصرّ على عدم التنازل عن خصائص الأمن في الأجهزة، قال لازاريديس: «الشركة ستتعاون مع السلطات في حال صدور حكم قضائي يقضي بتتبع اتصالات شخص معين». وأضاف أن التحديات التي تواجه الشركة حاضراً تتضمّن تثقيف الدول في ما يخص طبيعة الإنترنت و «بلاك بيري»، وطُرُق عملهما.