إنه مشهد شبيه بتلك المناظر التي نجدها على الصور التذكارية الخاصة بأجمل المناطق حول العالم. طبيعةٌ خلابة، جبالٌ خضراء تكسوها الأشجار، قممٌ متّشحة بالثلوج صيفاً وشتاءً، شاليهات خشبية متناسقة ومصمّمة بذوقٍ رفيع، إضافة إلى ذلك الهواء النقي والخاص بالمرتفعات. في الصباح تسمع أجراس الماشية وفي المساء عواء الذئاب... منذ 17 سنة تتحّول البلدة السويسرية الواقعة في قلب جبال الألب، في الصيف، إلى عاصمةٍ موسيقيةٍ عالمية لتستقبل ضمن مهرجان فيربييه أكبر وأهم ما تعرفه الموسيقى الكلاسيكية من عازفي فيولون وتشيللو وبيانو ومغنيين وقادة أوركسترا. «تعزف عادةً الموسيقى الكلاسيكية في صالات العرض، على المسارح، لا تقدم في الأعالي. بالنسبة لي، فإن المزج بين الطبيعة والموسيقى يجعل الموسيقى أنقى وأجمل. يمكنك قبل الدخول إلى الحفلة وبعد الخروج منها التمتّع بكل المناظر الطبيعية الخلاّبة»، هكذا يلخص مارتن انغستروم مدير ومؤسس مهرجان فيربييه الأجواء. في فصل الصيف، تعيش القرية الصغيرة بأكملها على وقع المهرجان. تتحوّل فنادقها إلى مسارح، وكنائسها إلى صالات للعزف، ومدارسها إلى قاعات للتمارين، وصفوفها إلى استوديوات فردية للعازفين، وملاعبها المغلقة إلى صالات تستخدمها الأوركسترا. أمّا مكاتب المهرجان فتعجّ بالشباب المتطوعين الذين ينتهزون هذه الفرصة لتمضية أوقات ممتعة مع الموسيقى. منذ سنوات واسم فيربييه أصبح مرادفاً للتميّز والإبداع مع تجمّع أكبر قدر من النجوم في مساحة جغرافية وزمنية محدودة. فلا ننسى بافاروتي، ودومينغو وكاريراس وما أثارته إطلالاتهم سوية خلال التسعينات، من حماسة لدى الجماهير والإعلام. وفرادة المهرجان تحققت بفضل انغستروم الذي عرف كيف يستغل علاقاته في الوسط الفني ليجعل من هذا الملتقى موعداً سنوياً منتظراً يجمع ما عجزت عن إتمامه الأسطوانات وبرامج المواسم الموسيقية في العواصم الكبرى. وما يميّز المهرجان ليس عشرات حفلات العازفين المنفردين فقط، بل لقاء هؤلاء مع بعضهم بعضاً في مشهدٍ يشبه إلى حدٍ ما مباراة ال «All Star Game» السنوية لكرة السلة الأميركية التي تجتمع فيها أبرز الأسماء التي برزت خلال موسم ال «أن بي أي» لتلعب ضمن الفريق الواحد. نظرة واحدة إلى برنامج المهرجان تثير في نفسك الكثير من التساؤلات: إلى أين تذهب وماذا تحضر؟ بإمكانك هنا الاستماع إلى الموسيقى في أي وقتٍ كان، في الصباح كما في المساء. ليس غريباً أن تجد في الوقت نفسه حفلتين أو ثلاثاً لمؤدين كبار، فأنت في فيربييه. استطاع المهرجان السويسري أن يبني سمعته العالمية من خلال استضافته أسماء كبيرة وتنظيمه حفلات لا يتخيّلها عاقل إلا في الأحلام... ثمن ذلك باهظ مع موازنة المهرجان التي تتعدى في كل عام 6 ملايين يورو والتي لا تتمّ إلا عبر إسهامات رعاة رسميين متمثلين ببنكٍ من هنا أو ماركة لأغلى ساعة في العالم من هناك. يقول عازف الألتو الفرنسي أنطوان تامستيت وهو واحد من هذه النجوم، ل «الحياة» عن مشاركته مع زملائه من الفنانين الكبار: «مهرجان فيربييه فريد من نوعه نسبةً الى نوعية وأعداد الفنانين العالميين المشاركين. نلتقي هنا في أجواء صيفية رائعة مع الكثير من الوحي الذي يمليه وجودنا في الجبال. لدينا الوقت لنتمرّن ونتحدّث ونستمع إلى الموسيقى مع بعضنا بعضاً. كل ذلك ينعكس على أجواء الحفلات التي نقدّمها. هي مناسبة لألتقي بأصدقائي من الفنانين الذين لا أستطيع رؤيتهم خلال العام. فبعد تمضية أسبوع في فيربييه نرحل بغنى ثقافي وروحي كبيرين». شارك في دورة المهرجان ال17 التي امتدّت من 16 حزيران (يوليو) حتى الأول من آب (أغسطس) الجاري، ما لا يقل عن 40 فناناً عالمياً كشارل دوتوا ونيكولاي لوجنسكي وإفجيني كيسين ومارتا أرجريش وجيدون كريمير ودانيال هاردينغ وفاليري غرغييف وميشا مايسكي ونيكولاس انجليش ونيكولاس لوجنسكي وأن صوفي فون أوتر وايان بوستردج وجوشوا بيل... كل ما يمكن أن يحلم به محبّو الموسيقى. هؤلاء هم من أشهر النجوم في سماء الموسيقى الكلاسيكية الذين تتقاسمهم كبرى الصالات العالمية طوال العام. أما الجمهور فهو مواكب هذه «الطفرة» في العرض، مع مبيع أكثر من 33 ألف تذكرة للحفلات خلال أسابيع المهرجان الثلاثة وقدوم 10 آلاف شخص اضافي إلى النشاطات المجانية التي تقام على هامشه. ولكن جمهور فيربييه لا يقتصر فقط على هذه الأعداد وذلك بفضل نقل حفلاته عبر الإنترنت من خلال موقع www.medici.tv الذي سمح لنصف مليون شخص حول العالم بمتابعة مجريات المهرجان والتي غالباً ما نقلت مباشرةً على الهواء. ومن المتوقع أن يصل هذا العدد إلى مليون ونصف المليون خلال الأشهر المقبلة. تجدر الإشارة إلى أنّ المهرجان السويسري كان أوّل من بادر منذ أربع سنوات في بثّ حفلاته على الانترنت في شكل مباشر ومجاني، لتتمثل به بعد ذلك عشرات المهرجانات الأخرى. «ملتقى دافوس الموسيقي» في فيربييه أيضاً اهتمام كبير بالفنانين الشباب الواعدين مع تأسيس «أكاديمية فيربييه الموسيقية» التي تسمح للموهوبين منهم بأن يشاركوا في ورشات العمل (Master Classes) مع عمالقة الغناء والعزف. ورشات العمل هذه مفتوحة أمام الجمهور الذي يشاهد فيها كيف يقوم عازف البيانو العالمي ألفريد براندل مثلاً أو المغنية السويدية بربارة بوني بإرشاد نجوم الغد. إضافةً إلى ذلك هناك أوركسترا فيربييه لموسيقى الحجرة التي يشارك فيها شباب من أنحاء العالم وهم فوق ال 29 من العمر واوركسترا فيربييه السيمفونية لمن هم بين ال 17 وال 29 والذين ينتقون بعناية كبيرة ليعزفوا تحت قيادة أهم قادة الاوركسترا الحاليين. هذا النشاط غير الاعتيادي ذهب بالبعض الى تلقيب المهرجان بملتقى دافوس للنخبة العالمية على مستوى الموسيقى الكلاسيكية، فما رأي تومسون بذلك؟ «ما نحاول القيام به هو تعريف الشباب على أكبر عدد ممكن من الناس من وكلاء ومتعهدي حفلات من أهم المدن العالمية، إضافة الى مدراء أكبر شركات التسجيل. وعليهم أن يجدوا طريقة يتحدّثون فيها اليهم ويعرّفوهم إلى أعمالهم». حضور عربي لا تختلف هذه الأراء عن تلك الخاصة بالموسيقيين الشباب. عازف الشيللو الأرجنتيني راميرو الفاريز صاحب الشعر الطويل والبشرة السمراء المقيم في الولاياتالمتحدة منذ سنين، يزور فيربييه للمرة الثالثة، ينظر إلى مشاركته كفرصة ذهبية لا تتوافر لأيٍّ كان: «سبق لي وشاركت في مهرجانات أخرى ولكن هناك شيء مميز لم أجده في أي مكان آخر من العالم. أنا نشأت وانا أشاهد أفلام وثائقية واستمع إلى أسطوانات أولئك الفنانين الكبار المشاركين في المهرجان. لكن أن أتعامل معهم يومياً هو أمر رائع جداً. هم يشعرونك بأن الموسيقى هي الأهم وليس شخصهم. فهم متواضعون جداً وهذا ما يعجبني كثيراً هنا». أما ميريم منشروف عازفة الفيولون الجيورجية والتي انضمت أخيراً إلى أوركسترا راديو كولن في ألمانيا، فهي تستخدم كلمة «عائلة» في حديثها عن زملائها في الأوركسترا. «أنتظر بفارغ الصبر فصل الصيف لأرى مجدداً اصدقائي في الاوركسترا. وآتي إلى هنا منذ سبع سنوات وأتعرف دائماً إلى أناس تربطني بهم علاقات أخوية. نعزف هنا أعمال تعود إلى العصور كافة ولكل المؤلفين. نتعلم الكثير من كبار القادة وهذا يفتح لنا أبواباً كثيرة على المستوى المهني». ولكن وسط هذا الحضور الشبابي من كل حدب وصوب ماذا عن التمثيل العربي؟ كانت مفاجأة سارة أن نرى في برنامج حفلة اختتام المهرجان اسم التينور المغربي الشاب عبدالله العسري إلى جانب أشهر أسماء الغناء الحاليين. فالعسري شارك في أوبرا «سالومي» للمؤلف ريشارد شتراوس برفقة الكبار في عالم الأوبرا والأوركسترا كديبورا فويت وغوينيث جونس وسيجفريد جيروسالم وفاليري غرغييف في عمل يعتبر من الأصعب في الريبرتوار الكلاسيكي سواء من ناحية المغنيين أو الاوركسترا. وعلى رغم اقتضاب الدور الذي غنّاه العسري، أشار إلى أنها «فرصة نادرة أن أشارك في عمل كهذا. حتى ولو أن غنائي لم يتعدّ الثلاث دقائق، استطعت أن أقيس الخبرة الطويلة للمغنين المشاركين في العمل وأن أرى كيف استطاعوا أن يتغلّبوا على المصاعب في غضون ثلاثة أيام مع أوركسترا من الشباب. مجرد مراقبتي طريقتهم في التعامل مع الموسيقى زادني معرفة وساعدني في التقدم في مسيرتي. مشاركتي في مهرجان فيربييه ساعدتني أيضاً على أن أحتكّ بالنجوم الكبار. فأنا أعرف انه بإمكاني الآن أن أطلب نصيحة ديبورا فويت مثلاً عندما أحتاجها وهذا أمر رائع». الأجواء في فيربييه حميمة. كيف لها أن تكون غير ذلك في هذه القرية الصغيرة؟ تلتقي في الشارع بهذا العازف الكبير وهو يدخل إلى أحد المحلّ أو بنجمة البيانو تلك التي تشرب القهوة على شرفة أحد الفنادق أو بقائد الأوركسترا الشهير وهو يبحث عن مطعمٍ يأكل فيه مع عائلته. تزول هنا العلاقات الرسمية لتغلب عليها لغة الموسيقى والفن والإبداع لتجعل من مهرجان فيربييه «حدثاً فنّياً فريداً» تتعانق فيه حيويّة وحماس الشباب بخبرة وتجربة المحترفين.