قال الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا عمْران أبو العوام، عن قتادة، عن أبي المليح، عن واثلة بن الأسقع، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «أنزلت صُحُف إبراهيم في أول ليلة من رمضان. وأنزلت التوراة لسِتٍّ مَضَين من رمضان، والإنجيل لثلاث عَشَرَةَ خَلَتْ من رمضان وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان» (مسند أحمد بن حنبل:4/107). وقد روي من حديث جابر بن عبدالله وفيه: «أن الزبور أنزل لثنتَي عشرة ليلة خلت من رمضان، والإنجيل لثماني عشرة»، والباقي كما تقدم. رواه ابن مَردُويه. أما الصحف والتوراة والزبور والإنجيل - فنزل كل منها على النبي الذي أنزل عليه جملة واحدة، وأما القرآن فإنما نزل جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا، وكان ذلك في شهر رمضان، في ليلة القدر منه، كما قال تعالى: �إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ� [سورة القدر، الآية: 1]. وقال الله تعالى: �إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ� [سورة الدخان، الآية: 3]، ثم نزل بعدُ مفرّقاً بحسب الوقائع على رسول الله صلى الله عليه وسلم. هكذا روي من غير وجه، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه سأله عطية بن الأسود، فقال: وقع في قلبي الشك من قول الله تعالى: �شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ� وقوله: �إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ� وقوله: �إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ� وقد أنزل في شوال، وفي ذي القعدة، وفي ذي الحجة، وفي المحرم، وصفر، وشهر ربيع. فأجابه ابنُ عباس: «إنه أنزل في رمضان، في ليلة القدر وفي ليلة مباركة جملة واحدة، ثم أنزل على مواقع النجوم ترتيلا في الشهور والأيام». رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه، وهذا لفظه. وفي رواية سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال: «أنزل القرآن في النصف من شهر رمضان إلى سماء الدنيا فجعل في بيت العِزَّة، ثم أنزل على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في عشرين سنة لجواب كلام الناس». وفي رواية عكرمة، عن ابن عباس، قال: «نزل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر إلى هذه السماء الدنيا جملة واحدة، وكان الله يُحْدثُ لنبيه ما يشاء، ولا يجيء المشركون بمثَل يخاصمون به إلا جاءهم الله بجوابه، وذلك قوله: �وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً� [سورة الفرقان، الآية: 32، 33]. وقوله: �هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ� هذا مدح للقرآن الذي أنزله الله هدى لقلوب العباد مِمَّن آمَنَ به وصدَّقه واتَّبعَه �وَبَيِّنَاتٍ� أي: ودلائل وحُجَج بَيِّنة واضحة جلية لِمَن فهِمَها وتدبَّرها؛ دالة على صحَّة ما جاء به من الهُدى المنافي للضلال، والرّشد المخالف للغي، ومفرقاً بين الحق والباطل، والحلال، والحرام. وقد رُوِيَ عن بعض السلف أنه كَرِهَ أن يُقال: إلا «شهر رمضان» ولا يقال: «رمضان»؛ قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن بكار بن الريَّان، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القُرَظي، وسعيد المقْبُري؛ عن أبي هريرة، قال: لا تقولوا: رمضان، فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى، ولكن قولوا: شهر رمضان. وقوله: �فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ� هذا إيجاب حَتْمٍ على مَن شَهِدَ استهلال الشهر، أي كان مُقيماً في البلد حين دخل شهرُ رمضان، وهو صحيح في بدنه، أن يصوم لا محالة. ونَسَخَتْ هذه الآيةُ الإباحةَ المتقدِّمَةَ لِمَنْ كان صحيحاً مُقيماً أن يفطر ويفدي بإطعام مسكين عن كل يوم. ولما حتَّم الصيام أعاد ذِكْرَ الرُّخصة للمريض وللمُسافر في الإفطار، بشرطِ القضاء فقال: �وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ�. معناه: ومَن كان به مرضٌ في بَدَنِهِ يَشُقّ عليه الصيام مَعَه، أو يُؤذيه، أو كان على سفر: أي في حال سفر؛ فله أن يفطر، فإذا أفطرَ فعليه بِعِدَّةِ ما أفطره في السفر من الأيام؛ ولهذا قال: �يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ� أي: إنما رخَّصَ لكم في الفِطْر في حالِ المرض وفي السفر، مع تحَتُّمِهِ في حَقِّ الْمُقِيم الصَّحِيح، تيسيراً عليكم ورحْمَةً بكم. وهاهنا مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة: إحداها: أنه قد ذهب طائفة من السلف إلى أن من كان مقيماً في أول الشهر ثم سافر في أثنائه، فليس له الإفطار بعُذر السفر والحالة هذه، لقوله: �فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ� وإنما يُباح الإفطار لمسافر استهلّ الشهر وهو مسافر، وهذا القول غريبٌ؛ نقله أبو محمد بن حزم الظاهري في كتابه المُحَلى، عن جماعة من الصحابة والتابعين. وفيما حكاه عنهم نظر، والله أعلم. فإنه قد ثبتت السُّنَّةُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرَجَ في شهر رمضان لغزوة الفتح، فسار حتى بلغ الكَديد، ثم أفطر، وأمر الناس بالفطر. أخرجه الشيخان. (صحيح البخاري برقم: (1948،4279) وصحيح مسلم برقم: (1113). الثانية: ذهب آخرون من الصحابة والتابعين إلى وجوب الإفطار في السفر، لقوله: �فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ� والصحيح قولُ الجمهور، أن الأمر في ذلك على التخيير، وليس بحَتْم. لأنهم كانوا يخرجون مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في شهر رمضان. قال:» «فَمِنَّا الصائم ومِنَّا الْمُفطر، فلم يُعب الصائمُ على الْمُفطر، ولا الْمُفطرُ على الصائم. (رواه مسلم في صحيحه برقم: (1118) من حديث أنس رضي الله عنه. الثالثة: قالت طائفة منهم الشافعي: الصيام في السفر أفضل من الإفطار، لفعل النبي كما تقدم، وقالت طائفة: بل الإفطار أفضل، أخذاً بالرُّخصة، ولما ثبت عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم): أنه سئل عن الصوم في السفر، فقال: «من أفطر فحَسَن، ومن صام فلا جناح عليه» (هذا لفظ حديث حمزة بن عمرو الأسلمي في صحيح مسلم برقم: (1121). وقالت طائفة: هما سواء لحديث أُمِّ المؤمنين عائشة الصِّدِّيقة رضي الله عنها وعن أبيها الصِّدِّيق: أن حَمْرة بن عمرو الأسلمي قال: يا رسول الله، إني كثير الصيام، أفأصوم في السفر؟ فقال: «إنْ شئت فَصُمْ، وإنْ شئت فأفطِرْ». وهو في صحيح البخاري برقم: (1943) وصحيح مسلم برقم: (1121).