في مجموعته القصصية الأخيرة يتناول سام شيبارد كعادته شخصيات ضائعة تبحث عن وسيلة لضبط حياتها وتفشل. «يوم من الأيام» الصادرة في أميركا عن دار نوبف تسجّل تفاعل الحدثين الداخلي والخارجي وسط خلفية أميركية واسعة من الكوابيس والقتام. تطل ملامح ذاتية من خلال شخصية الراوي المدمن على الكحول الذي قضى دهساً وهو مخمور، وشخصية «الممثل» الذي يؤدي أدواراً قليلة مصطفاة ويعشق الجياد السريعة. يبدو تجوال الراوي عبر الولايات قهرياً أكثر منه بحثاً حراً، وهو يحذّر نفسه من الانهيار إن لم يبطّئ استكشافه البلدات المهجورة. يتوقف الأميركيون فيها غالباً للتزود بالوقود أو لتناول وجبة، في حين يقصدها هو ليكتشف أسرارها. كان التعرف الى الكاتب الإرلندي سامويل بيكيت ما دفع شيبارد الى الكتابة، وفي المجموعة تفصيل بيكيتي يجسّده رأس مقطوع ثرثار يختصر العنف في الثقافة الأميركية. تشكو شخصية «ثرثرة شبه دائمة في رأسي من الفجر الى الغروب. ما كنت سأستشرف ذلك عندما كنت في الخامسة ألعب بالعصي في التراب، ولكن أظنها تراكمت خلال هذه السنوات الستين ونيف، وتعمّقت وبات تجاهلها أقل سهولة». شيبارد الذي بدأ كاتباً ثم امتهن التمثيل وكتابة السيناريو أيضاً يرى أن الكتابة تمنح حياة المؤلف شكلاً يصدّ الإحساس بالفوضى. باتت أكثر أهمية لديه لا كحرفة فقط، بل أيضاً كوسيلة لاكتشاف ما لا يوصف. يسلك بالكتابة طريقاً مجهولة، ويشعر بجدوى كانت ستغيب عن أيامه لولا الآلة الكاتبة. بعد نحو خمسين مسرحية لا يزال متطفلاً، يقول، على عالم الأدب، ويحس أنه يعيش حياة ليست له، ويرتكب فعلاً لم يولد ليؤديه. عمل نادلاً في نيويورك وشجّعه مديره على كتابة مسرحية يعرضها له في المسرح الذي أداره. عرضت «رعاة البقر» في 1964، وخلال سنة قالت «نيويورك تايمز» إنه يعتبر في شكل عام عبقري المسرح على هامش برودواي. في 1979 نال جائزة بوليتزر عن «الطفل الدفين» التي ترصد حياة أسرة أميركية مفككة، وسرّها الخبيء في الحديقة الخلفية. يمرض الأب المزارع المدمن على الكحول وتعنّفه زوجته المتدينة على تجاهله رسالة الرب ويسوع. لكن حقيقة المرأة ليست في لسانها. تخون زوجها مع الكاهن الذي تطلب منه إقامة نصب لابنها المفضّل آنسل. ما كان الابن الواعد ليموت في نزل خلال شهر العسل لو لم يتزوج فتاة كاثوليكية، ولا عزاء في ابنيها الآخرين. يعجز أحدهما عن تدبّر أموره بنفسه، ويدمّي الثاني رأس والده كلما حلقه. تكرّر ظهور الأب المدمن العنيف في «غرب حقيقي» و «متعطش للحب» و «لعنة الطبقة الجائعة» و «كذبة عقل». كتب «متعطش للحب» بعد بداية علاقته بالممثلة جيسيكا لانغ منذ نحو ثلاثة عقود، وصوّرت أولى الشخصيات القوية في مسرحه. دوّن فيها مزيج الحب والكراهية بين إدي ومي اللذين يكتشفان أنهما أخ وأخت غير شقيقين، وخشية الشاب من تحوله الى والده المدمن تماماً كالكاتب الذي بغض أباه ثم أدمن الكحول مثله. نفكر بالأمر، نتحدث عنه، ثم نصبح فجأة موضوع بغضنا الأكبر. المسألة إغريقية. هم الذين اخترعوا هذا (...) أو على الأقل منحوه اسماً. عاد الى الشرب بعد إقلاع أربعة أعوام، ثم توقف ثانية حين ضبط وهو يقود سيارته مخموراً. «إنه صراع دائم (...) أعتقد أن الإدمان في دمي، في عقلي. أستطيع أن أدمن بسهولة، لكن الغريب أن شقيقتيّ ليستا مثلي. لا أعرف. ربما كانت رمية نرد». وجد في الكتابة طريقة للانفصال عن المغنية باتي سميث التي خان زوجته معها. قرّر العودة الى شريكته وطفله، وقال لسميث: «لنكتب مسرحية». سهرا ليلة انتهت ب «فم الكاوبوي» التي اشتركا في تمثيلها وقدّمت مع «بلاك بوغ بيست بيت» التي لعبت زوجته فيها شخصية بنيت على باتي. لم يستطع الاحتمال وهرب الى لندن مع الزوجة والطفل. مع بلوغه السادسة والستين ينظر خلفه ويرى الحسرة والندم لدى شخصياته الهاجسة باقتراب النهاية. «تشعر أنك تنقص على نحو ما. تشعر بحواسك تنقص (...) لا أعرف كيف يتعاطى الناس مع الأمر. الحياة قاسية ما يكفي، والآن ستموت... واو». الحركة في أعماله تراجعت أيضاً، وباتت شخصياته أكثر تأملاً واستبطاناً، إلا أنه لا يزال يختصر رجولة أميركية معينة تجمع القسوة والصمت ورعاية الخصوصية. عين أميركية كان في التاسعة حين قرأ رواية لإيان فليمنغ عن جيمس بوند، وها هو يكلف اليوم تأليف كتاب عن العميل السري الذي يعمل في خدمة جلالتها. عرف جفري ديفر شهرة عالمية مع «جامع العظام» في التسعينات من القرن الماضي، وظهر بطلها المشلول لنكن رايم في تسع روايات له. حوّلت الرواية فيلماً وبدأت بتحر نيويوركي لامع يتمدد في فراشه، ويفكر في الانتحار بعدما شلّه حادث. لكن اكتشاف جزء من جثة وظهور شرطية جميلة يغيران مزاجه، ويشغلانه بصراع ضد مجرم متسلسل يقلد جرائم بشعة تضمنتها رواية بوليسية. خدم والد ديفر في بريطانيا في الحرب العالمية الثانية، وسمح لطفله بقراءة روايات جيمس بوند فتأثر بها حين كتب قصته الأول عن جاسوس أميركي يسرق طائرة بالغة السرية من الروس بمساعدة البريطانيين. تربطه قرابة بإدوارد دي فير الذي تردد اسمه بين من اشتبه بكونه شكسبير، لكنه يقول إنه ليس كاتباً كبيراً، وإن ألّف 26 رواية باعت أكثر من عشرين مليون نسخة في العالم. عندما نال جائزة «خنجر إيان فليمنغ الفولاذي» التي تمنحها جمعية الكتاب البوليسيين، اعترف بفضل الكاتب الإنكليزي عليه. تدور روايته عن بوند في فترة زمنية قصيرة ومواقع جغرافية جميلة، ويرغب في إثارة ذعر القارئ وإمساكه من سترته منذ البداية وحتى الفصل الأخير. يخلص لشخصية العميل كما صاغها صانعها، ويصور كعادته العنف وما بعده. تعتمد غزارته صيغة مكرورة من أبطال أقوياء، أشرار مرضى نفسياً، ومنعطفات مفاجئة في الأحداث التي تدور في زمن قصير لا يتعدى أحياناً الساعات الثماني. ويبقى ولاء الكاتب الستيني الأول لشعار خالد: «بع الكتاب، اقبض المال وانتقل الى الكتاب التالي». بعد قرن هل تغير السيرة الذاتية الكاملة لسامويل لانغهورن كليمنس صورة مارك توين؟ قبل وفاته في 1910 أوصى الكاتب الأميركي بعدم نشر المخطوطة كاملة قبل قرن ليضمن كونه «ميتاً، غير منتبه، ولا مبال»، وقادراً على قول رأيه بصراحة. في نهاية تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل ستصدر لورا ترومبلي المجلد الأول من السيرة كاملة بعد ظهور سير عدة منقحة، ونشر توين نفسه مقتطفات في مجلات معاصرة. ذكرت ترومبلي إن الكاتب الساخر أمضى خمسة أشهر من عامه الأخير يكتب عن إيزابيل ليون التي هجس بها. ستكشف السيرة أكثر حالاته غضباً وحقداً، وتغير الصورة السائدة عن عجوز مرح بقي يلقي النكات وهو في طريقه الى قبره. وظّف ليون في 1902 لتهتم بمراسلاته، فرأته ألطف الناس وأكثرهم إثارة للحب. دعته «الملك» وحلمت بالزواج منه بعد وفاة زوجته بعد عامين، لكنها اقترنت بمدير أعماله الذي طلّقها في ما بعد، فرحلت في شقة صغيرة تحت الأرض في 1958. طرد توين ليون في 1909 مدعياً أنها نوّمته مغناطيسياً ثلاث سنوات وحاولت سرقته وإغواءه بالاستلقاء في أرجاء البيت بملابسها الداخلية الحرير. قال إنه قاوم «العاهرة الحقيرة ذات العقل القذر»، وتذكر ترومبلي إنه هدّدها بنشر ما كتبه عنها إذا كشفت أسراره. لم يكن طاهراً كما رسخ في الوعي الشعبي، إذ شرب ودخّن 300 «سيغار» في الشهر، وكانت رغبته الجنسية بالغة القوة.