عندما سيطرت عناصر «الحشد الشعبي» على الفلوجة بدعم أميركي في حزيران (يونيو) الماضي، احتجزت أو عذبت أو انتهكت حقوق عدد من المدنيين يفوق بكثير ما أعلنه المسؤولون في واشنطن. وما زال أكثر من 700 من البالغين والقصر مفقودين بعد ما يزيد على شهرين من سقوط المدينة التي كانت معقل «داعش». وحدثت الانتهاكات على رغم جهود الولاياتالمتحدة لتحجيم دور «الحشد» في العملية، بما في ذلك التهديد بسحب الدعم الجوي. ولم تحدث الجهود الأميركية تأثيراً يذكر فمسلحو «الحشد» لم ينسحبوا، وشارك بعضها في جرائم سلب ونهب هناك وهم الآن يتحدون أي جهد أميركي للحد من دورهم في العمليات ضد التنظيم. وكان هناك إجماع على أن الميليشيات قتلت 66 شخصاً على الأقل وانتهكت حقوق ما لا يقل عن 1500 آخرين أثناء فرارهم من الفلوجة، على ما ورد في لقاءات مع أكثر من 20 شخصاً من الناجين وشيوخ العشائر والسياسيين والديبلوماسيين الغربيين. أكد هؤلاء أن مقاتلين من الحشد أطلقوا النار على رجال وصبية وضربوا آخرين بل وذبحوا البعض. واتفقت هذه الروايات مع نتائج تحقيق أجرته السلطات العراقية المحلية وشهادات مسجلة بالفيديو وصور فوتوغرافية التقطت. ويثير عجز واشنطن عن السيطرة على العنف الطائفي قلقاً كبيراً الآن لدى مسؤولي الإدارة الأميركية في وقت تمضي قواتها قدماً في خطط مساعدة القوات العراقية على استعادة الموصل الأكبر حجماً بكثير، والمعقل الرئيسي ل»داعش». فالعمليات التمهيدية لتطهير المناطق الواقعة خارج المدينة الاستراتيجية مستمرة منذ أشهر. ويخشى زعماء سنة في العراق وديبلوماسيون غربيون أن ترتكب عناصر الحشد تجاوزات أسوأ في ثاني مدن العراق. وكان التنظيم الإرهابي سيطر عليها في حزيران (يونيو) 2014. ويقول مسؤولون أميركيون أنهم يخشون أن تقضي انتهاكات الحشد، إذا تكررت في الموصل، على فرص المصالحة بين سنة العراق وشيعته. وقال مسؤول بارز في إدارة الرئيس باراك أوباما: «في كل حديث دار بيننا عن التخطيط للموصل وفي كل حديث أجريناه مع العراقيين... كان هذا فعلاً موضوعاً محورياً». ومع توارد روايات الناجين والمسؤولين العراقيين وجماعات حقوق الإنسان عن انتهاكات الفلوجة، قلل المسؤولون في واشنطن في البداية من شأن المشكلة ولم يكشفوا فشل المساعي لتحجيم تلك الفصائل. وفي إفادة صحافية للبيت الأبيض في العاشر من حزيران أبدى المبعوث الخاص بريت ماكغيرك قلقه مما وصفه بأنه «تقارير عن أعمال وحشية منفردة». وقبل الإفادة بثلاثة أيام أبلغ صهيب الراوي، محافظ الأنبار السفير الأميركي أن هناك مئات من الفلوجة فقدوا بعدما احتجزتهم فصائل شيعية. وبحلول موعد الإفادة في البيت الأبيض كان مسؤولون عراقيون ومحققون معنيون بحقوق الإنسان والأممالمتحدة جمعوا أدلة على إعدام العشرات وتعذيب المئات من البالغين والقصر واختفاء أكثر من 700 آخرين. وبعد نحو ثلاثة أسابيع قال ماكغيرك خلال شهادة أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ: «تم تلقي تقارير عن حدوث انتهاكات في الأيام الأولى من العملية وتبين أن كثيراً منها لم تكن جديرة بالتصديق لكن بعضها بدا جديراً في النظر إليه». ورفض طلباً لإجراء لقاء معه. وقال مارك تونر، نائب الناطق باسم الخارجية إن المسؤولين الأميركيين أبدوا «قلقاً في السر والعلن» إزاء التقارير التي تحدثت عن أعمال وحشية. وأضاف: «نرى أن أي انتهاك غير مقبول على الإطلاق». أما زعماء الحشد الشعبي فينفون أن فصائلهم أساءت معاملة المدنيين ويقولون إن المفقودين إرهابيون من «داعش» قتلوا أثناء المعركة. ورفض مسؤولون في الحكومة العراقية الأنباء التي تحدثت عن تعرض المدنيين للعنف على نطاق واسع. وقال صفاء الشيخ، نائب مستشار الأمن الوطني إن هناك بعض الحوادث و»هناك الكثير من المبالغات وبعض التقارير ليس لها أي أساس من الصحة». وكانت كبرى الفصائل الشيعية المسلحة التي دربتها طهران وسلحتها ظهرت خلال الاحتلال الأميركي عام 2003 وازدادت قوة ونفوذاً. وبعد أن ساعدت الحكومة في الدفاع عن بغداد عندما سيطر «داعش» على الموصل عام 2014 أصبحت هذه الفصائل ذراعها. وذبح إرهابيو «داعش» آلاف العراقيين من مختلف الطوائف. وهناك الآن أكثر من 30 جماعة شيعية يتلقى أعضاؤها رواتب من الحكومة. وتشغل الجماعات الرئيسية مناصب في الحكومة ومقاعد في البرلمان. وازدادت هذه الجماعات قوة بحصولها على جزء من المعدات العسكرية التي باعتها الولاياتالمتحدة أو أعطتها للعراق منذ عام 2005 وتزيد قيمتها على 20 بليون دولار. ويشير مسؤولون أميركيون وخبراء مستقلون، وصور وتسجيلات فيديو نشرها أعضاء في الفصائل الشيعية على الإنترنت إلى أن هذه الأسلحة تشمل حاملات جند مدرعة وشاحنات وعربات «هامفي» ومدفعية وحتى دبابات. «الحشد الشعبي» مسؤول أمام رئيس الوزراء حيدر العبادي رسمياً. أما من الناحية الفعلية فإن فصائله الرئيسية لا تسأل إلا أمام نفسها وترفع أعلامها وشعاراتها وتتلقى الدعم من فيلق القدس. وقال ديبلوماسي غربي تابع الحملة على الفلوجة إن ما حد من تأثير الأميركيين أنهم لم تكن لديهم قوات في المدينة ولم يتمكنوا من رصد الانتهاكات. وفي السادس والعشرين من أيار (مايو) ناشد المرجع الشيعي الأعلى آية الله علي السيستاني المقاتلين حماية المدنيين. وقال السيستاني مقتبساً قولاً للرسول: «لا تغلوا ولا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة ولا تقطعوا شجراً إلا أن تضطروا إليها». لكن كلماته وتهديدات الولاياتالمتحدة لم تجد آذاناً صاغية. ووقعت أول انتهاكات الحشد المنهجية في السابع والعشرين من أيار (مايو) وكان ذلك في الشمال الشرقي من المدينة في منطقة سجار الزراعية حين أوقفت عناصره أو قوات الأمن مجموعة من الفارين وفصلوا بين 73 و95 من الذكور الذين تبلغ أعمارهم 15 عاماً فأكثر واقتادوهم بعيداً، على ما أفاد محافظ الأنبار والديبلوماسي الغربي الذي قال: «ما زلنا على اتصال بالنساء والأطفال الذين تم تسليمهم إلى ممثلي الحكومة... وما زالوا لا يعرفون مكان الذكور». وأضاف أنه في التاسع والعشرين من أيار وفي غرب مناطق سجار الزراعية فصل عناصر الحشد الشعبي 20 من الذكور و»بدأوا يقتلونهم. ووصلت الشرطة عندما لم يعد هناك سوى ثلاثة أحياء. أخذتهم وألقتهم في مخيم للنازحين». وتابع إن الثلاثة كانوا مرعوبين لذا رتبوا شكلاً من أشكال الحماية لأنفسهم في بغداد. وأكد الراوي الحادث. وأبلغ الناجون الثلاثة أحد الأكاديميين وقالوا إنهم كانوا ضمن حوالى 50 شخصاً يختبئون في منزل حين رأوا الشرطة ترفع علم العراق على مدرسة قريبة. ولوحت المجموعة بقطع من القماش الأبيض فطلبت منهم الشرطة ترك المنزل. وحين خرجوا فصل الذكور عن باقي أفراد أسرهم. ونقل الأكاديمي عن الناجين قولهم إن ضابطاً فتح النار وقتل 17 وألقي القبض على الضابط. وقال الأمير زيد بن رعد الحسين، مفوض الأممالمتحدة السامي لحقوق الإنسان ومسؤولان عراقيان وناج عمره 69 عاماً إن تلك العناصر كانت من كتائب «حزب الله» وهي واحدة من أقوى الفصائل الشيعية المسلحة وترتبط ارتباطاً وثيقاً بفيلق القدس الإيراني. وتعتبر الولاياتالمتحدة الجماعتين من الجماعات الإرهابية. ونفت الكتائب اشتراكها في انتهاكات الفلوجة. وقال الناطق باسمها جعفر الحسيني إنهم «يستندون في تلك المزاعم إلى اتهامات يرددها سياسيون في إطار محاولة لإبعاد الكتائب عن عمليات الأنصار والموصل». ووصف الناجون كيف تكدسوا في غرف صغيرة وقاعات ضيقة وحرموا من الطعام والشراب وكيف كابدوا لالتقاط الأنفاس في أجواء خانقة. وانهال عناصر «الحشد» بالضرب على المحتجزين بالعصي والقضبان والخراطيم وأعلنوا أنهم يثأرون لمن قتلوا في «مذبحة سبايكر» التي ارتكبها «داعش» في حزيران 2014 حين قتل 1700 من طلاب القوة الجوية. وقال رجل عمره 32 عاماً وهو واحد من ستة ناجين إنه حشر في غرفة داخلها عشرات الأسرى الآخرين ويداه مقيدتان وراء ظهره. وأضاف: «بدأوا يضربوننا بالأيدي والسكاكين والكابلات. وحين فقد أناس الوعي صرخنا فيهم: سيموتون. فقالوا: هذا ما نريده». وفي تسجيل فيديو صوره مسؤولون محليون قص ناج آخر كيف أعطت العناصر المسلحة الأسرى العطشى الذين كانوا يتوقون لقطرة مياه زجاجات كي يتبولوا فيها ثم أمروهم أن يشربوا منها. ووصف رجل عمره 47 عاماً كيف شاهد مقاتلين يضربون ابنه البالغ من العمر 17 عاماً مراراً وتكراراً ويحملون جثث 15 شخصاً أوسعوهم ضرباً. وكان الرجل واحداً من الستمئة وخمسة ناجين الذين أفرج عنهم. وزاد: «نريد أن نعرف مصير أبنائنا. نعتبر الأميركيين مسؤولين عن كل ما حدث». قال الأمير زيد إن العناصر الشيعية قتلت ما لا يقل عن 49 أسيراً ممن احتجزتهم في الصقلاوية، أربعة منهم ذبحاً. وتوقفت الأعمال الوحشية مع 800 أسير بعد يومين. لكن ما زال مصير 643 من الصقلاوية مجهولاً. وسجلت أسماؤهم في قائمة قدمها المسؤولون المحليون إلى الأممالمتحدة. وفي السابع من حزيران وصف الشيخ علي حمد، وهو أحد شيوخ عشيرة المحامدة في حديث تلفزيوني ما أطلق عليه «جريمة إبادة» وقتل «العشرات من أبنائنا». وفي اليوم ذاته أبلغ محافظ الأنبار السفير الأميركي باختفاء مئات من السنة. وأصدر الأمير زيد بياناً يستشهد فيه «بتقارير مفجعة للغاية وجديرة بالثقة» عن حدوث انتهاكات تضمنت إعدام رجال وصبية. وفي التاسع من حزيران، أي قبل يوم واحد من الإفادة الصحافية التي قدمها ماكغيرك، أصدرت «هيومن رايتس ووتش» تقريراً عن الأعمال الوحشية المزعومة في سجار والصقلاوية. وأخيرا أنشأت قوات الأمن العراقية بما فيها جهاز مكافحة الإرهاب الذي دربته الولاياتالمتحدة ممرات آمنة ووجهت المدنيين لكيفية الخروج من المدينة. ومن ثم تمكن حوالى 100 ألف مدني من الفرار منها.