من الصعب معرفة ما الذي جذب المخرج الأميركي الرائد د. و.غريفيث الى تلك المسرحية (التي ستقول ممثلته المفضلة في ذلك الحين، وإحدى بطلتي الفيلم الذي اقتبس عن المسرحية، انها كانت قدمت قبل ذلك مترجمة الى اكثر من اربعين لغة)، حتى يحوّلها الى فيلم شاءه ان يكون على ضخامة فيلميه الكبيرين السابقين «مولد أمة» و «تعصب». ولكننا نعرف بالتأكيد ان هذا الفيلم لا يعتبر اليوم من بين اهم ما حقق غريفيث في حياته. إذ، على ضوء مشاهدة الأعمال الكبرى لهذا المخرج، يمكن تلمّس مدى الاصطناعية في «اليتيمتان»، الفيلم الذي نتحدث عنه هنا، والذي كان - على اي حال - من تلك الأفلام التي عرفت كيف تقدم جانباً من ذهنية الثورة الفرنسية الى الجمهور الأميركي، كما الى الجمهور خارج اميركا. ذلك ان غريفيث، حينما اتخذ قراره بتحويل مسرحية «اليتيمتان» الى فيلم سينمائي، اعطاه أولا عنوان «يتيمتان في العاصفة»، نقل الأحداث الى زمن الثورة الفرنسية. وإذا كانت اجواء الثورة وديكورات باريس وفرساي التي حققها غريفيث للفيلم اثارت إعجاب الجمهور الأميركي، فإنها في الحقيقة، اثارت سخط الجمهور الفرنسي. او هذا ما يقوله لنا على الأقل مراسل صحيفة «نيويورك تايمز» الذي كتب عن عرض الفيلم في باريس، خلال شهر ايلول (سبتمبر) 1922، تقريراً قال فيه: «مساء امس، وخلال العرض الأول لفيلم «يتيمتان في العاصفة» لغريفيث في احدى صالات العرض الباريسية، ثارت اضطرابات وقلاقل كثيرة في المنطقة المحيطة بصالة السينما... وامتد مداها الى منطقة واسعة. والذي حدث يومها ان جمهور المارة، حتى من بين الذين لم يشاهدوا الفيلم، راح يساند الاحتجاج الفوري الذي ابداه بعض مشاهدي الفيلم، إزاء مشاهد الثورة الفرنسية... وكأن لسان حال هؤلاء جميعاً يقول انه لا يجوز ان يتجرأ اجنبي على ان يعرض لنا مشاهد العصر الذي نعرف حسناته وسيئاته افضل منه بالتأكيد... فبماذا يا ترى كان يفكر الرقباء الذين اجازوا عرض الفيلم الذي يقدم لنا معالجة لذلك الفصل من التاريخ الفرنسي من منطلق عدائي». فهل كان الفيلم معادياً حقاً للثورة الفرنسية؟ إن ناقد السينما ومؤرخها الفرنسي الشهير جورج سادول، يقدم رؤية مغايرة إذ يقول لنا إن الفيلم، في نسخته التي عرضت في باريس في ذلك الحين، إنما كان شوِّه واختزل من جانب الرقابة بغية عدم إثارة المنظمات والحركات الملكية التي كانت على وشك الاحتجاج على الفيلم. إذا، هل كلنا امام فيلم يعادي الثورة؟ اما إننا إزاء فيلم يقف الى جانب الثورة ضد الملكية؟ كالعادة هنا، في إزاء افلام غريفيث الرئيسة، نجدنا امام التباس محير. ومع هذا فإن ثمة ما لا بد من قوله، والى حد ما نقلا عن الممثلة ليليان غيش، التي عاصرت مولد هذا الفيلم، بل كانت - بحسب روايتها - الدافع الى تحقيقه، إذ كانت هي، اصلا، من اصطحب غريفيث الى صالة مسرح كانت المسرحية تعرض فيه، فيما كان هو يبحث عن حكاية تناسب وجود ليليان ومعها اختها دوروثي في بطولة فيلم واحد. ليليان تروي لنا ان «غريفيث، وكما كان فعل اثناء إعداد وإخراج «مولد امة» و«تعصب» انهمك هنا في دراسة المصادر التاريخية، إذ اتخذ قراره فور مشاهدة المسرحية بتحويل زمنها الى زمن الثورة الفرنسية... وكان مصدره الأساس كتاب توماس كارليل عن «الثورة الفرنسية»، كما انه درس مؤلفات كتاب آخرين، كما استشار مراراً صديقنا لوي آلار، استاذ اللغة الفرنسية في جامعة هارفرد، وكذلك استشار المركيز دي بولينياك». في اختصار، ان غريفيث الذي كان معجباً الى حد مدهش برواية تشارلز ديكنز «قصة مدينتين» التي تتحدث عن الحقبة نفسها، وبالمنطق الميلودرامي نفسه، اراد ان يقترب عمله، من الناحية التاريخية ومن ناحية الجو المرسوم، اقرب ما يكون الى الواقع. غير ان هذا كله لم يشفع له... طالما ان الميلودراما تضافرت هنا مع ذهنية المغامرات ورعاة البقر، لتقدم في نهاية الأمر حكاية من الصعب تصديقها... إذ ما إن انجلى الطابع الضخم والاستعراضي الذي بهر المتفرجين اولا، في فيلم بن غريفيث الذي وضعت من اجله ديكورات تمثل ساحة الباستيل وقصر فرساي وكنيسة نوتردام، ووصلت كلفة ديكور واحد فيه الى 60 ألف دولار، وهو مبلغ كان يكفي حينها لإنتاج اربعة افلام متوسطة الطول، ما ان انجلى ذلك الطابع حتى بقي الهيكل العظمي للفيلم، عبارة عن حكاية غريبة عجيبة عن شقيقتين يتيمتين تجدا نفسيهما، من دون اي مبرر منطقي، ضائعتين وسط فوضى الثورة الفرنسية. ولقد بدا الأمر في النهاية وكأن كل ذلك الجو التاريخي الذي هيمن على الفيلم، لم يكن إلا ذريعة لتقديم المغامرات البائسة للشقيقتين غيش، اللتين لم يتمكن صدق مشاعرهما من جعلنا ننسى اصطناعية الحبكة. فعمَّ تحكي لنا هذه الحبكة؟ بكل بساطة عن الشقيقتين اليتيمتين اللتين تصلان الى باريس في عام 1789 محملتين بكل براءتهما وبؤسهما وصدقهما، وهناك نجدهما تعيشان في ظل الطاغية السيدة فوشار التي ترعبهما بشكل مدهش، إذ تفرض حمايتها عليهما... ثم نجدها وقد سلمتهما الى الفارس فودراي. ولكن يحدث هنا للشقيقتين ان تفرا من ذلك المصير، في الوقت الذي تندلع فيه الثورة الفرنسية، فإذا بهما تعتقلان، ويصدر القرار بقطع رأسيهما بالمقصلة. وهنا يصل زعيم الثورة دانتون - مثلما يفعل اي راعي بقر حقيقي - على صهوة حصانه لينقذهما في اللحظة الأخيرة. لقد حقق غريفيث هذا الفيلم في عام 1921، اي في العام نفسه الذي حقق - وعرض فيه - فيلمه السابق «شارع الأحلام» الذي لا بد من الإشارة هنا الى انه جرّب فيه للمرة الأولى - وذلك قبل ظهور السينما الناطقة بسبع سنوات - ان يجعل الفيلم ناطقاً في نوع من التزامن بين الصورة والصوت... يومها لم تنجح تلك التجربة، ما دفع غريفيث الى تأجيل تحقيق مشروع كان عزيزاً عليه، وكان يرى انه لا يمكن تحقيقه إلا صوتاً وصورة، وكان عبارة عن اقتباس عن مسرحية «فاوست». وهكذا بعد «شارع الأحلام» كان عليه ان يجد موضوعاً آخر تعوّض فيه الضخامة وخلق الأجواء على عدم القدرة على إيجاد الحوار بالصوت المتزامن. وكانت تلك الفترة التي اقترحت فيها ليليان غيش عليه ان يشاهدا «اليتيمتان» على المسرح. وهي إذ روت له الحكاية نظر إليها بغضب قائلا: «واضح ان كل ما يهمك من الأمر هو ايجاد دور لشقيقتك دوروثي». لكنه، قلّص من غضبه حينما شاهد المسرحية. ويقيناً انه في ذلك الحين، لم يهتم بالحبكة وبالأدوار بقدر ما اهتم بأنه عثر حقاً على مشروع يمكنه من ان يصور الثورة الفرنسية. فتلك الثورة كانت على اي حال هاجساً لدى كثر من السينمائيين، لا سيما في الاتحاد السوفياتي وفي الولاياتالمتحدة. هكذا، إذا، ولد هذا الفيلم، الذي رحَّب به النقد الأميركي، على عكس النقد الأوروبي، واصفاً إياه بأنه «عمل فني عظيم نشعر من خلاله بضخامة «مولد امة» والتأثير التراجيدي لفيلم «الزنبقة المحطمة»، والانفعالات الدرامية في فيلم «الطريق الى الشرق»....». والحقيقة ان هذه الأفلام، اضافة الى «تعصب» و«ابراهام لنكولن» كانت بعض ما حقق هذا المخرج (غريفيث) الذي يعتبر من كبار رواد فن السينما والمجددين في رسم اجواء الأفلام، حتى وإن كانت افلامه - من دون ان تبارح الحقيقة التاريخية - استفزت دائما جمهورها. وغريفيث ولد عام 1875 في ولاية كنتاكي الأميركية، وبدأ حياته صحافياً، ثم ممثلا مسرحياً، لينتقل عام 1904 للتمثيل في السينما. وهو نشر في عام 1907 بعض القصائد، ومعظمها تميز بالاقتباس عن الأدب (إدغار آلن بو بين آخرين). اما شهرته العالمية فإنها بدأت عام 1915 مع «مولد أمة»، لتتواصل بعد ذلك عبر افلام راحت تحقق نجاحاً، وتصل الى ذروة اخرى مع «تعصب». وإذا كان غريفيث رحل في عام 1948 معزولا ومنسياً، فإنه كان واصل عمله حتى بداية الثلاثينات ليكون «العراك» (1931) واحداً من آخر اعماله، والوحيد الناجح بين افلامه الناطقة. [email protected]