ما إن يذكر اسم خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حتى تتداعى إلى النفس شلالات من الخواطر ودفقات من المشاعر والمعاني النبيلة، كما يتداعى إلى الذهن فيض لا ينتهي من المواقف المشهودة والأفعال المحمودة. فالعاهل السعودي يذكر دائماً بحميد الأفعال وعميق الآثار والمواقف الثابتة والآراء الراجحة والقول السديد، فأفعاله المجيدة ومواقفه المشهودة وآثاره الطارف منها والتليد شاخصة للعيان، خالدة في الأذهان، محمودة عند الله وخلقه إن شاء الله، ظلال أعماله وارفة وثمارها يانعة، يتفيأ ظلال تلك الأعمال إنسان المملكة وتمتد ليجد بردها إنسان أمته العربية والإسلامية بل وتمتد أمناً وسلاماً على كل أصقاع العالم. وهذه هي سمة عظماء التاريخ، والملك عبدالله في مقدمتهم، فهو شخصية عالية سامقة باسقة لذلك فعند الحديث عنه تتقاصر تلك الجمل والكلمات عن إيفائه حقه مهما تجاسرت وتطاولت. إن مواقف الملك عبدالله على المستوى الإقليمي والعربي والإسلامي والدولي توضح بجلاء انه نموذج فريد لعطاء العظماء ومواقف الرجال أصحاب النخوة والرجولة والكرم وأهل الحزم والعزم والحكمة والفكر النير المستنير وإننا لنستشعر مواهبه الفذة وقدراته العالية في أقواله الحكيمة وآرائه الصائبة ومواقفه الصلبة وقدرته المذهلة في حل أعقد المعضلات وأعتى المشكلات وإن وراء ذلك إيماناً قوياً بالله وإرادة لا تلين وإصراراً لا يفتر وحباً لأمته لا يحده حدود. إن رحلة خادم الحرمين الأخيرة المكوكية العالمية والعربية تؤكد ما ذهبنا إليه فهو ملك عظيم لا يخلد للراحة، تؤرقه هموم أمته يحملها على عاتقه في حله وترحاله، لذلك فهو يوظف زياراته من أجل خدمة قضايا أمته والسلام العالمي، في حركته شرقاً وغرباً، وزيارته الأخيرة إلى كندا على رأس وفد بلاده إلى قمة العشرين والولايات المتحدة عقد فيها قمة مع الرئيس أوباما ناقشت العلاقات الثنائية وعملية السلام وأمن الخليج العربي وملف إيران النووي. أما زيارته إلى المغرب ومصر وسورية ولبنان والأردن فكانت من أجل دفع قضايا الأمة والسلام العالمي وبالطبع في مقدمها قضية فلسطين والقدس الجريح، والسلام المتعثر في الصراع العربي - الإسرائيلي! وهكذا نرى في كل قمة يعقدها اهتمامه بالقضايا المحلية مثلما الإقليمية والدولية فروحه إنسانية وعقله عالمي وقلبه إسلامي عربي. ومن يقرأ نزراً قليلاً من جهود هذا العاهل العظيم يرى تاريخاً ناصعاً وجهداً خارقاً ونية صادقة مخلصة لملك يعمل ليل نهار لخدمة أمته ولملمة صفوفها لتنفض غبار الماضي وتسمو على جراحات الحاضر لمواجهة التحديات الجسام التي تواجه مسيرتها، ولأنه على قناعة أن الأمة لن تستعيد أمجادها إلا بتوثيق روابط الإخاء وتوحيد الصفوف، واستشعاراً منه أن الألم واحد والمعاناة واحدة والمصير واحد، وإدراكاً منه ان الأمة تركب سفينة واحدة في عالم متغير تسيطر عليه مجريات وأحداث جسام في بحر لجي شديد الغور عالي الأمواج فهو يعمل جاداً على لم الشمل وجمع الصف وتطبيب الجراح بصبر المجاهدين وحكمة الفلاسفة وصدق المؤمنين. إن خادم الحرمين ليؤلمه ما تعانيه الأمة من ضعف وتشتت وتبعثر وتشرذم وتأخر، ولا بد أنه يتأمل حال العرب والمسلمين اليوم ويقارن حالهم بحال الأمم الأخرى ويقرأ تاريخ الماضي الناصع المجيد لأمته، هؤلاء الأجداد الذين جمعوا الدين والدنيا، ويستذكر كل المعطيات التي جعلت من أمته يوماً امة تسود العالم، فتملأ نفسه الأشواق إلى أمته متوحدة كأسنان المشط قوية بعقيدتها وتراثها وثقافتها فهو كمصلح وزعيم إسلامي لا يكتفي بالتمني ولكنه يبذل جهده من اجل تحقيق تلك المنية الغالية، فيشد رحاله إلى قارات العالم من أجل إبراز دور أمته وأنها أمة عدل وسلام، ويهمس في آذان زعماء المسلمين والعرب أن على الأمة أن تعمل وتدرك أن لغة العالم المتغير اليوم هي المصالح المتبادلة في العلاقات الدولية وفي التقدم العلمي والتطور والتكنولوجيا لغة (القوة) بكل عناصرها، وهي التي تخلق السلام... إذا توحدت الأمة. كانت سفينة العاهل السعودي الأخيرة قد حطت رحالها على أرض مصر التي قال عنها والده العظيم الملك عبدالعزيز - رحمه الله «لا عرب بدون مصر ولا مصر بدون عرب» وكانت قمته مع الرئيس مبارك تأكيداً لهذه الرؤية حيث تركزت على قضايا منها قضية السلام المتعثرة وسبل دعمها وإقامة الدولة الفلسطينية والقدس عاصمتها، والوضع في لبنان والعراق وحالة الوضع العربي وضرورة مضاعفة الجهود للارتقاء بالعلاقات العربية إلى المستوى الذي يجعلها قادرة على التصدي للتحديات التي تواجه الأمة. ثم كانت رحلة الملك عبدالله إلى سورية حيث ركزت القمة السعودية - السورية على تلك الثوابت ومن أجلها حطت الطائرة الملكية السعودية في مطار رفيق الحريري الدولي وعلى متنها العاهل السعودي والرئيس الأسد لتكتب صفحة جديدة في تاريخ لبنان منذ أن شكلت حكومته الوطنية التي خرجت من رحم توافق سعودي – سوري، ودعم كل ما يسهم في تثبيت استقراره ووحدته وتعزيز الثقة بين أهله. لا شك في أن الزيارة جاءت في وقتها، فانعقاد القمة الثلاثية على أرض لبنان يعكس يوماً لبنانياً بل وعربياً مشهوداً في وقت تموج فيه الساحة اللبنانية بتجاذبات داخلية حول المحكمة الدولية وقضايا أخرى، وأن عودة الموقفين السعودي والسوري حول لبنان إلى سابق عهدهما الذي رسمه اتفاق الطائف جعلت أهل لبنان يستبشرون بعهد جديد من الاطمئنان وتهدئة التوتر حول ما أثير حول قرار قريب للمحكمة الدولية، وإن كان ذلك الاطمئنان لن يؤثر كثيراً على قرارات تلك المحكمة الدولية. لقد شهدت بلاد الأرز مع زيارة خادم الحرمين والرئيس السوري هدوءاً كانت تنتظره، وهذا أمر محمود، ولعل تلك الزيارة تفتح الأبواب مشرعة للعودة إلى اتفاق الطائف واتفاق الدوحة، والبعد عن التوترات والمناكفات والتلويح باستخدام القوة، والاحتكام إلى مبدأ سيادة لبنان ودعم شرعية مؤسساته الدستورية. وزيارة العاهل السعودي والرئيس الأسد وأمير دولة قطر الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني في ظل السجال المستمر حول المحكمة لا شك في أنها تقول للبنان وأهله والعرب نحن معكم في السراء والضراء، وأوجدت مناخاً طيباً للحوار البناء بين أهل البلد الواحد، وهي استمرار لجهود الملك عبدالله الداعية إلى توحيد الصف العربي والإسلامي بعد أن توالت علينا النكبات وأثقلتنا الجراحات وأقعدتنا عن السير العثرات، فهذه المبادرات المخلصة لحكيم الأمة ليست جديدة فقد بدأها في قمة مسقط الخليجية وتلاها بقمة الكويت وثلثها بقمة الدوحة وما فتئ يعلنها يوماً بعد آخر، ولعل التاريخ يكتب لهذه الأمة السير على تلك المبادرات الخيرة النابعة من ملك عرف بالصدق والإخلاص والنية الحسنة والنخوة والشهامة العربية ولا ينكر ذلك ويجحده إلا من في عينيه عشى أو أعمى بصيرته الغرض والمرض. ولا تخرج القمة السعودية – الأردنية عن تلك الأهداف التي رسمها خادم الحرمين الشريفين لتقدم الأمة ورشادها فكان لقاؤه بالملك عبدالله الثاني تأكيداً على تلك المعطيات التي ركزت عليها زيارته إلى أرض الكنانة ودمشق وبلاد الأرز، لقد أبدى خادم الحرمين اهتماماً عظيماً بالقضية اللبنانية والوضع اللبناني، فلبنان اليوم يمر بمحنة وكان قدره أن يخرج من كارثة ليقع في أختها. ومما يؤكد هذا أنه في الوقت نفسه الذي تبذل جهود عربية متواصلة يقودها خادم الحرمين لتجنيب لبنان أي تدهور في أوضاعه السياسية وإبعاده عن التجاذبات الساخنة شنت إسرائيل عدواناً همجياً الثلثاء الماضي على لبنان منتهكة القرار 1701 وسيادة لبنان، وقد تصدى الجيش اللبناني للعدوان الإسرائيلي في معركة شرسة، ولن يكون هذا الانتهاك الأخير للقرار آنف الذكر، الأمر الذي يستدعي اليقظة والتنبه من كل اللبنانيين حكومة وشعباً، فالدولة العبرية لا تضمر خيراً بل شراً للبنانيين والعرب. المهم أن مفتاح الحل بيد أهلها بعد أن فتح لهم خادم الحرمين بجهوده الخيرة مناخاً خصباً للحوار ومقاربة في الآراء، إنه يقول لأهلنا في لبنان إن الحوار أهم بكثير من القطيعة... وإنه في عالم السياسة لا بد أن تبقى شعرة معاوية وإلا على البلد السلام، فرجال السياسة في لبنان عليهم الإبقاء على تلك (الشعرة)، والحكماء من أهله عليهم العض بالنواجذ على الحوار فهو السفينة التي تصل بالجميع إلى بر الأمان!! وما يؤخذ بوسيلة الحوار أبلغ وأثمن بكثير مما يؤخذ (بالعناد) أو البندقية، فكلاهما يوصلان إلى الهلاك... أما الحوار فنتيجته الحتمية التقارب والتناصح والوصول إلى المحجة البيضاء فيه تحقن الدماء، وتغل يدا شيطان الخراب والدمار، وبه تتضح النيات وتصفو القلوب وتهدأ النفوس وتتراقص شجرة (الأرز) – رمز لبنان – ندية على نغمات (الدبكة) ليسكت صوت الرصاص إلى الأبد. * رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية