التفجير الآثم لمكتب قناة العربية في بغداد الذي راح ضحيته عدد من القتلى الأبرياء، كأم هيثم، تلك المرأة التي تجاوزت ال50 من عمرها، التي كانت تعمل كعاملة في المكتب من أجل إعالة أطفالها الخمسة، يوضح مدى بشاعة أولئك الذين قاموا بتلك العملية التي لم تكن هي الأولى من نوعها ففي 2006 قتل سبعة أشخاص وأصيب 20 في انفجار سيارة مفخخة استهدفت مكتب القناة، وفي 2008 نجا مدير المكتب من الموت في انفجار عبوة وضعت في سيارته، ولقد أعلن تنظم القاعدة، ممثلاً بدولة العراق الإسلامية في بيان له، مسؤوليته عن العملية الأخيرة، وتوعدوا فيه كذلك باستهداف المزيد من الجهات والمؤسسات الإعلامية. إن من أبرز وأهم الأسباب التي جعلت من مكتب «العربية» في بغداد هدفاً رئيساً لهجمات تنظيم القاعدة هو ما ذكره نائب مدير مرصد الحريات الصحافية الحكومة العراقية في تصريح له بأن «استهداف العربية من القاعدة جاء بسبب بثها لبرنامج «صناعة الموت»، الذي يتحدث عن عمل وهجمات تنظيم القاعدة في العراق وبلدان أخرى». وهذه حقيقة واضحة، فبرنامج صناعة الموت، الذي تقدمه المذيعة المتألقة ريما صالحة، الذي لا يزال يُعرض كحلقة أسبوعية منذ أربع سنوات، يعد البرنامج الوحيد المتخصص في تحليل وكشف ظاهرة الإرهاب المحلي والعالمي، ومتابعة الحركات المتطرفة على شاشات التليفزيون العربية، فالإرهاب ظاهرة خطرة وهو من أبرز ملامح العصر، وتكمن خطورته حينما يتم استخدامه واستغلاله باسم الدين، إذ إن كل الأديان تدعو للسلام وتحرم القتل، وما يدل على أهمية هذا البرنامج وتأثيره، سواء على أتباع تنظيم القاعدة أو المتعاطفين معها، إشارة الرجل الثاني في تنظيم القاعدة أيمن الظواهري إلى البرنامج، وذلك في أحد الأشرطة التي هاجم فيها وسائل الإعلام، فصناعة الموت يسعى لكي يوضح للمشاهد حقيقة القاعدة وبيان خطرها، ليس من خلال اتهامه فحسب بالإرهاب والتفجير والتدمير، بل من خلال الإجابة عن أهم الأسئلة التي تدور في ذهن المشاهد، لماذا هؤلاء إرهابيون؟ وما أفكارهم؟ وما مرجعياتهم؟ وكيف يعملون؟ وما الفرق بينهم وبين المقاومة الشريفة؟ وما أهدافهم الحقيقية؟ تعرض البرنامج لملفات مهمة وحساسة جداً، خصوصاً ما يتعلق بتنظيم القاعدة في العراق، كخفايا حقيقة الدولة الإسلامية بالعراق، وإيضاح بعض جرائمها البشعة، والكشف عن أسرار مقتل زعيمي تنظيم القاعدة بالعراق أبي عمر البغدادي وأبي أيوب المصري، ولقاءات مع بعض القيادات السابقة، ومسؤولي التدريب العسكري في التنظيم، كالملا ناظم الجبوري، وأبو عمر جوهر شحادة ومقابلات مع أقرباء زعيم تنظيم القاعدة في العراق سابقاً أبومصعب الزرقاوي. مثل تلك الملفات الساخنة استنفرت وعلى مدى عرض البرنامج التنظيمات الإرهابية بالعراق خشية تأثر أتباعها والمتعاطفين معها بتلك الحقائق واللقاءات، فلم يكن أمامهم من وسيلة لإقناع أتباعهم سوى إصدار الكثير من البيانات التي تتهم البرنامج بالتكذيب والافتراء، وهو ما يدل بوضوح على مدى أهميته لدى تلك التنظيمات، ومن ذلك أن أصدرت حركة المقاومة الإسلامية بالعراق الشهر الماضي بياناً لما سموه بافتراءات إحدى الشخصيات المنتمية لتنظيم القاعدة، الذي ظهر في برنامج «صناعة الموت» تجاه عدد من التنظيمات الجهادية، ومن قبل أصدر تنظيم الجيش الإسلامي في العراق بياناً مطولاً بشأن الحوار الذي أجراه البرنامج مع «أبو عزام التميمي» القيادي السابق وأحد مؤسسي تنظيم الجيش الإسلامي، ناهيك عن مناقشة المنتمين لتلك التيارات لعدد من حلقات البرنامج على المواقع الالكترونية التابعة للتنظيمات الجهادية، كشبكة أنصار المجاهدين ومنتديات البراق الجهادية ونحو ذلك. ولذلك كله كان من الأهمية بمكان تدوين تلك التجربة الفريدة من نوعها، ليكون مصدراً ومرجعاً في درس ظاهرة الإرهاب العالمية، وهو ما قامت به أخيراً الإعلامية ريما صالحة من تدوين تلك التجربة في كتاب تحت عنوان «صناعة الموت... تجربة حياة»، الذي تضمن استعراضاً لكواليس العمل الإعلامي للبرنامج والطرق التي يتم من خلالها الوصول إلى الجماعات المتطرفة وإجراء اللقاءات مع الكثير من المنتمين لفكر «القاعدة» والمتعاطفين معها والمنشقين عنها، والتصدي بالتحليل لأبعاد ظاهرة العنف والتطرف الديني في البلاد العربية والإسلامية وفي الغرب أيضاً. حيث أوضحت الكاتبة في مقدمة الكتاب أن الإرهاب ينبثق من المناطق المظلمة في الذات البشرية، ومن المناطق التي يغطيها الجهل والظلام والحقد الأسود، وأنه في مرماه النهائي لا يؤمن بحق الآخر في ممارسة حريته الفكرية التي خلقها الله فينا مع نسمة الحياة، ومن هنا جاءت فكرة هذا البرنامج «صناعة الموت» لنصنع من خلاله الحياة الحقيقية. * كاتب سعودي. [email protected]