لم تكن أبداً الرواية العربية في معزل عن التغيرات الجذرية الحادثة في المنطقة في شكل عام. وبقدر ما تبدو هذه الجملة بديهية، إلا أنها تحمل دلالة اضافية جديدة عندما يحتل العراق المشهد كاملاً ومعظمه في أحسن الأحوال. يظهر العراق في الرواية العربية عموماً والعراقية خصوصاً عبر مرآة المعاناة التي تعكس مختلف الأشكال: ديكتاتورية عصر صدام، سنوات الحصار، سقوط بغداد، الاحتلال الأميركي، الطائفية القاتلة... وقبل كل ذلك خروج المثقفين إلى المنفى باختيارهم أو هرباً من الجحيم العراقي في غياهب الزنازين والمعتقلات. ليست هذه هي المأساة الوحيدة، بل إن الكارثة الكبرى هي وجودنا دائماً شئنا أم أبينا، داخل المشهد عبر الصور التي تبث عبر وسائل الإعلام ومواقع الانترنت في شكل مستمر. قد نحتاج فعلاً – أحياناً وفي شكل مفارق - إلى رواية لتنفضنا من كسل الانفعال أو حتى من أجل إبداء الجزع والهلع تجاه كارثة التشتيت والتفتيت. إحساس يجعل الفاصل بن الكتابة النقدية والعاطفية والأيديولوجية ضبابياً محيراً، بخاصة إذا كان العمل الذي نتناوله اشكالياً في ما يتعلق بصورة العراق الآن، وبرؤية العراقي الذي يفر من «الغبار الأميركي»، وهو عنوان الرواية الثانية لزهير الهيتي (دار الساقي). وكما احتاج الكتّاب اللبنانيون إلى الكثير من الوقت للكتابة عن الحرب الأهلية اللبنانية، بالمثل يحتاج الأمر إلى الوقت - المسافة نفسها للكتابة عما يحدث في العراق من مجازر يومية أطرافها غير محددين وأهدافها غير مفهومة. ظهرت أخيراً روايات «متعجلة» كثيرة سجلت الموقف الراهن (معظم الروايات العراقية التي كتبت بعد الاحتلال سجلت المشاهد نفسها في شكل وثائقي)، ما يجعلنا نتساءل ما إذا كانت رواية عن الاستعمار الحالي أم هي رواية اتخذت مسافة لتكتب عما بعد الاستعمار. ليس من الصعب أن يدرك أي متابع للموقف أن التواشج بين الاستعمار وما بعده شديد التعقيد. لم يعد الرفض موجهاً الى الاستعمار في شكل أحادي بل أيضاً الى كل ما استجلبه الاستعمار (الذي برر لوجوده عبر اختراع وهم كاذب) من صراع طائفي وأطراف خارجيين متآمرين ومرتزقة يعملون لحساب أطراف غير معلومة، مما يحول المشهد العراقي إلى فاصل من العبث الانساني الذي لا يرى في الحياة أي قيمة ولا يرى حقاً للنساء سوى الاغتصاب ثم القتل، ولا يرى في الآخر إلا العدو الذي ينبغي التخلص منه. على أساس هذا المشهد يقدم زهير الهيتي – الكاتب والصحافي العراقي - روايته «الغبار الأميركي»، حيث يعتم الغبار رؤية فاطمة الراوية التي لا ترى أي خلاص إلا عبر الحل الفردي البحت. هذا إذا اتفقنا على أنها كانت واعية بأن ما تقوم به هو حل أو مخرج من أي أزمة. تمثل فاطمة حيرة العراقي (والعراقية بالطبع) في مقابل هذا المشهد الذي يخنق كل امكانات العيش الانساني، ويتضاعف هذا الاختناق لكون المعاناة تكابدها امرأة. فاطمة الموهوبة التي تتقن أكثر من لغة تجد أخيراً عملاً في ظل الظروف الخانقة التي يمر بها البلد. إلا أن هذا العمل هو داخل المنطقة الخضراء، وهي المنطقة المحمية دولياً داخل بغداد وكأنها دولة داخل الدولة، وكانت تلك المنطقة ملهمة للكثير من الكتابات منها على سبيل المثل «الحفيدة الأميركية» لإنعام كجه جي، و «المنطقة الخضراء» لشاكر النوري. منذ دخول فاطمة تلك المنطقة وحتى خروجها منها (الأمر الذي استغرق نحو يوم) حين بدأ حظر التجول كانت مقدرات حياتها قد رسمت. فقد بدأ الأمر بإقامتها مع اثنين من المرتزقة في بيت في بغداد (الأول ايطالي والثاني جزائري) حيث انفصلت عن الحياة تماماً، وبدا كأنها تولد من جديد! تبدو هذه المفارقة مأسوية وكارثية في آن: فقد تحررت فاطمة من جسدها وحررته مع المرتزقة على خلفية الاحتلال. في انتقال فاطمة إلى قبرص، أو بالأحرى هروبها من جريمة القتل العبثية التي قامت بها في بغداد، تنتقل إلى هوية جديدة باسم عفاف بو جدرة لتكتشف المزيد من نفسها في نيقوسيا مع لامبروس النادل الذي قابلته بداية في بافوس. مرة أخرى على خلفية الجدار الذي يقسم نيقوسيا إلى نصف يوناني ونصف تركي - شكل آخر من أشكال الصراع الطائفي بين المسيحي والمسلم - تكتسب فاطمة (عفاف) مساحات جديدة في الحرية الداخلية، التي تتحول هنا إلى مساحات إشكالية من الناحية المجتمعية. فعندما تقبل فاطمة العلاقة المثلية التي تنشأ بين لامبروس وايكارت الألماني - مدير معهد غوته في نيقوسيا - يكون ذلك بداية الحوار العقلي الداخلي الذي يطرح العلاقة بين الشرق والغرب. وهو الحوار الذي يرتكز على دلالة الجسد في كل ثقافة. يمهد هذا الحوار أيضاً لانتقال فاطمة مع ايكارت إلى مدينة برلين، حيث ينتصر الحوار هناك للغرب علانية انطلاقاً من معطيات الجسد، المسموح له والمحرم عليه في كل ثقافة. هكذا يوظف الكاتب المكان في الرواية ليؤشر الى الرحلة التي يبدأها العقل حتى يصل إلى الطرف الأقصى من الخط الثقافي. ففي بغداد المحتلة يحصل الجسد على مفتاح الحرية ويتعلم أبجديات الشهوة التي تحتفظ بجزء كبير من الاحساس الذنب والازدواجية، ثم يخلص تدريجاً من الشعور بوطأة او فداحة هذه الحرية في نيقوسيا المقسومة بجدار، حتى يتخلص الجسد والعقل معاً من كل آثار الفعل الجسدي في برلين التي هدمت جدارها، وتحولت أنقاضه إلى أنتيكات تباع وتشترى. يتوازى مع ذلك تقديم نماذج شخصيات تدفع فكرة «التحرر»، أو بالأحرى التخلص من الثقافة العربية في شكل كامل، إلى الأمام. فجميع الشخصيات «البغدادية» شرسة وهمية مقابل «المرتزقة» الذين تواءمت معهم فاطمة. ثم تظهر في قبرص شخصيات وسطية تتأرجح بين الثقافتين، حتى يظهر ناظم التركي في برلين بكل ازدواجته، إضافة إلى بعض الشخصيات العراقية التي يرسمها الكاتب وهي تبرع في ممارسة المعايير المزدوجة أخلاقياً واجتماعياً، بما في ذلك والد فاطمة نفسه، الشيوعي الذي ركلها وهي جنين في بطن أمها. في اختيار هذه الشخصيات في تلك الاماكن مع اتخاذ الموقف من الجسد كأساس للرؤية والتحليل الاجتماعي يبدو الكاتب واعياً بالنقلة التي حدثت لفاطمة من بغداد المنطقة الخضراء، حتى برلين. يسمح الانتقال من المكان أو حتى العزلة عنه (كما حدث في بغداد) لفاطمة بمراجعات كثيرة، سياسية واجتماعية ونفسية. ومن هنا يمكن ادخال العمل في تصنيف روايات ما بعد الاستعمار. الا أن النتيجة التي تصل إليها فاطمة بالتدريج إثر هذه المراجعات تحول الرواية مباشرة إلى رواية عن الاستعمار. انتقلت فاطمة إلى المعسكر الغربي من ناحية الرؤى والأفكار (انتقى الكاتب أشد المنظومات تعقيداً وجدلاً وهي منظومة المثلية الجنسية) ولم تنته الى الوضع الايجابي الذي يؤول إليه المستعمر (بفتح الميم) من ناحية البحث عن مناطق بينية مسكوت عنها في الهوية (كما يشرح الناقد ما بعد الكولونيالي هومي بابا على سبيل المثل) بل انتهت إلى تبني (أو محاكاة بتعبير فرانز فانون) ثقافة المستعمر (بكسر الميم)، وهذا في ذاته شكل آخر من أشكال الاستعمار (يمكن أن يحدث العكس كما في رواية «تمر الأصابع» لمحسن الرملي حيث تبنى الراوي الثقافة الأصلية في مواجهة الغربية). لا يترك الكاتب فرصة لفاطمة لتخرج من سحب «الغبار الأميركي» سوى هذا التمرد والرفض الكامل لكل مفردات المنظومة الموروثة، حتى أن ايكارت الألماني (المتسق مع ذاته، الصادق، الحنون، الكريم، المثلي) يتحول إلى القلب الكبير الذي يعد بالخلاص. يختل توازن الرؤية أيضاً لسلبية الشخصيات العربية والشرقية بكل عام، وأيضاً لاتخاذ المثلية الجنسية، على سبيل المثل لا الحصر، معياراً للحكم على موقف الآخر. فهذه المنطقة ملغومة وشائكة يختلط فيها الاجتماعي والديني والأخلاقي. كما أنها لا تزال شائكة بعض الشيء في العالم الأول من الناحية الاجتماعية وإن كان ذلك من دون تصريح إيماناً بحقوق الحرية الفردية. صحيح أن فاطمة أعلنت موقفها صراحة من الاحتلال الأميركي للعراق (والايراني كما قالت ذلك أكثر من مرة)، إلا أن ذلك لا يبرر تحولها الكامل في النهاية، ربما من أجل ذلك انتهت الرواية وهي تكتب رسالة لايكارت (الذي سافر الى طاجيكستان لفترة قصيرة) تؤكد فيها أنها تسمع وقع خطوات في الصالة (الموت الذي يلاحقها من بغداد) لكنها تحبه «كثيراً وبنقاء».