كلٌ نظر للمشهد التركي من زاويته، وما يمليه عليه عالمه الخاص، ذهنية التعلم الايجابي تأخذني دائما إلى استخلاص الجانب المشرق من الأحداث الكبيرة والتي قد تثري التجربة الإنسانية. لذا حالة الانقلاب العسكري وانقلاب الشارع السريع عليه أخذتني للنظر إلى الأحداث من جانب العنف ونزعاته وبيئاته الحاضنة. الانقلاب كان مشهدا مزعجا لمنطقة تهددها حالات الدمار والفوضى، وترتفع فيها مشاريع التدخلات الأجنبية التي سهلت لها طيبتنا وسذاجتنا السياسية، حيث نعتقد ببراءة أن علاقات القوة بين الدول الكبرى والصغرى تدار بمثاليات وأخلاقيات، ولا توجد تحالفات أو مؤامرات. في تركيا الدولة الحليفة الصديقة، بعد الانقلاب الأخير نرجو أن تكون هذه المحاولة الفاشلة نهاية عصر الانقلابات العسكرية، فنزعات العنف واغتصاب السلطة انتهى مبررها مع تطور العملية السياسية، وتحول تداول السلطة إلى ممارسة ديمقراطية، ولعل خروج جميع المنتمين للأحزاب السياسية رافعين علم تركيا هو الذي قاد إلى افشال الانقلاب، فالإرادة الشعبية عبرت عن نفسها انتصارا لمستقبل تركيا، وليس انتصارا لأردوغان وحزبه. الرئيس التركي أردوغان لا يمكن تجاهل دوره مع حزبه فيما وصلت إليه تركيا من وضع نقلها من مواقع متأخرة في المنجزات التنموية إلى دولة محورية مؤثرة اقتصاديا وسياسيا، فالنجاح التركي في المنجز الاقتصادي أعطى للرئيس أردوغان وحزبه شرعية وطنية دعمت قاعدته الشعبية بعد أن استقطبت فئات جديدة من الشعب التركي لا تؤمن بالأفكار السياسية لحزب العدالة والتنمية. بعد اكتمال كفاءة ونضج المؤسسات الاقتصادية التي ركز على بنائها الرئيس أردوغان، وهو الإنجاز الذي قلب الموازين لصالحه في أحداث وانتخابات سابقة، قبل الانقلاب الأخير، واستقطبت جزءا مهما من النخبة الاقتصادية والسياسية المؤمنة بعلمانية الدولة، الآن نرى ثمار المنجز في التنمية السياسية التي أوجدت دولة المؤسسات. وقوف جميع الأحزاب السياسية، بالذات التي على خصومة مع حزب العدالة والتنمية، بقوة ضد الانقلاب والاستجابة لدعوة الرئيس للخروج إلى الشارع يعطي مؤشرا إيجابيا لاكتمال نضح الممارسة السياسية، وتحول تداول السلطة إلى الشرعية الديمقراطية. وهذا ما يسعدنا، أي أننا في المنطقة (نحتاج النموذج) الذي يكرس نزعات الأمن والسلام الاجتماعي، والبعد عن أخذ الحقوق أو التعبير عن المصالح عبر العنف. لم نجن من نزعات العنف والقتل سوى استمرار الحروب واتساع أعداد المدن التي تحولت إلى أطلال، واستمرار قوافل النازحين، وهلاك الحرث والنسل. في هذه البيئة نحتاج بقاء واستمرار الدول المستقرة والتي نجحت في برامجها ومشاريعها الوطنية، فالأجيال الصغيرة عندما ترى أقرانها تعيش في رخاء ومتسع من الرفاهية والكرامة الإنسانية، تتسع لها دائرة الأمل في الحياة إذا تعودت على رؤية البيئات الناجحة. من النماذج الحية التي تراها.. تبدأ الأجيال الجديدة في المنطقة تعلم مهارات النضال السلمي، وإدراك أن العنف ليس الوسيلة الوحيدة لإدارة الصراع وللترقي الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ونيل الحقوق. بل يأتي النجاح عبر المسارات الحضارية والإنسانية والأخلاقية. العنف هو الملاذ الأخير للعاجز والفاشل في التفكير الإيجابي. وهذه الغاية الإنسانية النبيلة هي التي تجعلنا نفرح بفشل الانقلاب في تركيا، فإخواننا الأتراك نجحوا في بناء بلدهم وأتاحوا المؤسسات المستقرة التي تكفل الممارسة السياسية النزيهة، ولعل الجيش التركي يتحول من حامٍ للعلمانية الاتاتوركية إلى حامٍ للممارسة الديمقراطية عبر الحياد الايجابي الذي لا يأخذه إلى عالم السياسة ومحاذيرها.