على رغم الغائية الواضحة في كتابه المثير للجدل «صدام الحضارات»، فإن المفكر الأميركي الراحل صموئيل هنتنغتون أبدى ملاحظة تبدو موحية، وهي غياب دولة - مركز تقود عالم الإسلام على منوال الصين في الحضارة الكنفوشيوسية، والهند في الحضارة الهندوسية، وروسيا في الحضارة المسيحية - الشرقية، والولاياتالمتحدة في الحضارة الغربية، حيث تتنافس دول ست أساسية على هذه المركزية في العالم الإسلامي هي إندونيسيا وإيران وباكستان والسعودية وتركيا ومصر، من دون أن تتمكن إحداها من تحقيق إجماع حول قيادتها لوجود قصورات متباينة: فإندونيسيا رغم حجمها السكاني الكبير، ونموها الاقتصادي المشهود، تبقى دولة طرفية بحكم موقعها البعيد عن قلب العالم الإسلامي، فضلاً عن أن سكانها خليط منوع من جنوب شرقي آسيا، وثقافتها بمثابة تشكيل من أصول ومؤثرات عدة إسلامية وهندوسية وصينية ومسيحية. وباكستان هي الأخرى تحوز الحجم الجغرافي المناسب، والتعداد السكاني الكبير فضلاً عن القدرة العسكرية الكبيرة وعلى رأسها السلاح النووي، غير أنها طرفية نسبياً قياساً إلى القلب العربي للإسلام، وفقيرة إلى حد كبير، ناهيك عن كونها منقسمة اثنياً وتعاني عدم الإستقرار السياسي. وإيران كذلك تحوز كتلة حيوية متميزة على صعيد الحجم الجغرافي والتعداد السكاني، فضلاً عن موقعها المركزي في الشرق الأوسط، وثرائها النفطي، غير أنها شيعية بينما 90 في المئة من المسلمين ينتمون إلى المذهب السني. كما أن لغتها محلية لا تحوز شعبية اللغة العربية في عالم الإسلام. والسعودية هي مهبط الإسلام، وكعبة المسلمين ما يمنحها نفوذاً روحياً هائلاً، ولديها أعلى احتياطات للنفط في العالم ما يمنحها نفوذاً مالياً كبيراً، إلا أن تقاليدها الاجتماعية المحافظة تبدو غير جذابة للبعض. أما تركيا فيتوافر لها الحجم والموقع الجغرافي المناسبين، والبنية السكانية الجيدة، فضلاً عن مستوى النمو الاقتصادي المتوسط، والتماسك الوطني والتقاليد العسكرية العريقة، لكن موطن قصورها يكمن في استمرار تعريفها لنفسها كدولة علمانية، وتوجهها الغربي الواضح على رغم بروز صحوة إسلامية معتدلة. وأخيراً مصر التي تملك الموقع الجغرافي المركزي في الشرق الأوسط، والكتلة الحيوية المتميزة على أصعدة الأرض والسكان، والقدرة العسكرية المناسبة، فضلاً عن حيازتها الأزهر وهو المؤسسة القائدة في التعليم الديني، لكنها فقيرة تعتمد اقتصادياً على الولاياتالمتحدة والمؤسسات الدولية التي يسيطر عليها الغرب. وعندما أعلن الرئيس أوباما عن رغبته في أن يوجه إلى العالم الإسلامي رسالة تعايش تزيل آثار ما جرى في الحقبة البوشية وتدشن عقداً حضارياً جديداً بين أميركا والعالم الإسلامي، جرى حديث داخل الإدارة الأميركية وترددت أصداؤه خارجها حول البلد الأكثر رمزية، والأصلح لإطلاق هذه الرسالة، وتم تداول أسماء بلدان ثلاثة من بين الأقطاب الستة، كإندونيسيا لاحتضانها طفولة الرئيس أوباما نفسه، ومصر كرمز للإسلام السني يحتضن أبرز معاهده العلمية ممثلة في الأزهر الشريف وقلب جيوسياسي للعالم العربي، قبل أن يرسو الاختيار على تركيا الدولة السنية الكبرى، والكتلة الاستراتيجية بالغة التأثير في المحيطين الأطلسي والأوروبي، حاضنة المدينة العريقة اسطنبول/ القسطنطينية ذات الرمزية الفائقة في تاريخ العلاقة بين العالمين الإسلامي والغربي، وذلك إبان استضافتها للدورة الثانية لمؤتمر «تحالف الحضارات» الذي كان قد أعلن وعقدت دورته الأولى عام 2005 في مدريد في رعاية مشتركة من رئيس الوزراء الإسباني ثاباتيرو، ونظيره التركي أردوغان، وهي مناسبة دالة ولها رمزيتها التي تتوافق وهذه الرسالة الحضارية. وإذا كنت كمصري، تمنيت انطلاق رسالة أوباما من حديقة الأزهر الشريف في القاهرة من قلب مصر العربية، فإن أمنيتي المشروعة لا تحول دون الاعتراف بحسن اختيار الرئيس الأميركي للرمزية التركية، قياساً إلى ما أبدته مصر من كسل على طريق الخروج من أزمتها الاقتصادية، قادها إلى التردد وأعجزها عن الإمساك بتيارات الحركة الاستراتيجية في المنطقة. وذلك في مقابل ما أبدت تركيا من ديناميكية فائقة عبرت عن نفسها في وجهين أساسيين: الوجه الأول ثقافي يتمثل في نجاح تركيا، عبر عملية جدلية طويلة نسبياً، في تكريس هوية جديدة يتصالح داخلها الإسلام مع الحداثة وتتجسد في صيغة «العثمانية الجديدة»، وذلك عبر نضال استنفد جهد أجيال ثلاثة في الصحوة الإسلامية، وتمكن في النهاية من إحياء الإسلام الذي كانت عملية التغريب قد قمعته بقسوة ولكن من دون قدرة على اقتلاعه من وجدان الإنسان التركي، باعتباره معيناً للهوية والخلاص الفردي والروحي. غير أن الإسلام الذي بعثته «العثمانية الجديدة» لم يكن هو الإسلام الموروث بمكوناته ومفرداته التقليدية، بل الإسلام الحديث ذو العمق الوطني والقومي التركي، والروح الديموقراطية النامية والتوجهات الاجتماعية التقدمية والاقتصادية المتحررة، وهي المقومات التي جعلته منذ تسعينات القرن الماضي، طرفاً قوياً في الجدل حول الهوية، والتي أوصلت حزب العدالة والتنمية إلى موقع الحكم كحزب ليبرالي تنتفي عنه معاداة الإسلام كمعتقد وتقاليد، ما يعني أنه يسعى إلى تجذير الإسلام كإيمان فردي ومركب قيمي في المجتمع وليس إلى فرض الإسلام السياسي على الدولة. ومن ثم فهو ينتصر للعلمانية في تقاليدها الأوروبية الراسخة، على حساب الكمالية التي لا تعدو نوعاً من الأصولية العلمانية المعادية للدين في السياسة والمجتمع معاً. مكنت هذه العملية الجدلية تركيا من إعادة اكتشاف نفسها كدولة قومية، ولكنها جزء من جغرافيا الشرق الحضاري، وامتداد للهوية الإسلامية التاريخية بعد نحو قرن من سفور القومية الطورانية (1908)، وثمانية عقود ونيف من هيمنة الأتاتوركية التي أمعنت في التغريب وفي الاستعلاء على الشرق كانتماء حضاري. وذلك عند نقطة توازن لا تتنكر لقوة حضور الغرب في عالمنا المعاصر ولا لجاذبية قيمه الفكرية والسياسية ولا للحظات التثاقف الإيجابي معه، لكنها في المقابل تضع هذا الحضور في موضعه، باعتباره تجربة في التاريخ وإن كانت زاهرة، وليس وصفة سحرية للتقدم كما تصورتها النخبة الكمالية في القرن العشرين. ولا شك في أن تلك الصياغة التوازنية هي التي تستطيع أن تصنع طرفاً محاوراً، يمتلك احترام العالم الإسلامي ويحسن تمثيله، بقدر ما يمتلك لغة الغرب ويستطيع خطابه. والوجه الثاني استراتيجي يتمثل في إعادة اكتشاف تركيا لدورها في المنطقة حتى صارت محوراً لأهم تفاعلاتها. وأيضاً دورها في المشكلة الكردية التي تعاني منها مع العراق وإيران وإن بأقدار متفاوتة. فالملحوظ أن ثمة حلحلة للأزمة الكردية يتواكب مع حضور حزب العدالة والتنمية، ونمو الاعتدال التركي على صعيد الموقف من الهوية الإسلامية، ومن الهوية القومية وهو ما يصب في منهج تصالحي مع الأكراد تبدى في محاولة دؤوبة لا تزال مستمرة لاستيعابهم ثقافياً وإعلامياً والاعتراف بلغتهم والسماح لهم بممارستها في التعليم والإعلام. وكذلك دورها قبل العدوان الإسرائيلي على غزة وأثناءه. فقبله مباشرة طرحت تركيا على إسرائيل رغبتها في التوسط لتحقيق التهدئة ومد فترة الهدنة مع «حماس». وعندما اختارت إسرائيل التصعيد العسكري، بدلاً من الرد الإيجابي على العرض التركي، حاولت تركيا، بالتنسيق مع مصر، التقدم بمبادرة لوقف إطلاق النار وزار رئيس الوزراء السيد رجب طيب أردوغان إسرائيل ومصر، وعندما أدرك الرجل تعقيدات الموقف وتعنت إسرائيل ادانها مباشرة، وحملها مسؤولية العنف المسلح وما يترتب عليه في لهجة ربما كانت أوضح مما لدى البلدان العربية نفسها. وعندما وصفت إسرائيل تصريحات أردوغان ب «العاطفية» فإن اللهجة التركية ازدادت حدة، إذ أعلن الرجل بشجاعة تحسب له أن موقفه من العدوان الإسرائيلي على غزة موقف سياسي وليس موقفاً عاطفياً، وأنه ينبع من موقف جل الشعب التركي الذي يمثله، والذي يعد بمثابة الأحفاد للعثمانيين الذين حكموا العالم الإسلامي، وكانوا أكثر الإمبراطوريات تسامحاً مع اليهود باسم الدين الإسلامي. هذا التحول العميق في الخطاب التركي من قضايا المنطقة لا يمكن إدراك حجمه الحقيقي إلا بالقياس إلى المواقف السابقة للعلمانية التركية والتي ارتكزت على التحالف الاستراتيجي مع إسرائيل والتأييد الأعمى لعدوانيتها إزاء العرب. كما لا يمكن تفسيره إلا بنجاحها في إعادة اكتشاف ذاتها ثقافياً، فالصياغة التوازنية لهويتها بين الإسلام والحداثة هي الأساس العميق لحضورها الاستراتيجي في بنية المشرق العربي الإسلامي. ولكن تبقى هنا المشكلة المؤرقة لتركيا والمتعلقة بوجودها داخل الاتحاد الأوروبي، الذي رفض قادته دعوة الرئيس أوباما إلى تسريع قبولها فيه ضمناً أو صراحة باعتباره ناديهم الداخلي، وإن قبلوا بها شريكاً لهم في العمل على استقرار بيئته الخارجية كما ذهب الرئيس الفرنسي ساركوزي، والمستشارة الألمانية ميركل. أو على الأقل يطلبون منها الانتظار حتى عام 2023، أي بعد مئة عام من تفكك السلطنة العثمانية وبروز تركيا الكمالية، بحسب ما ذهب ميشال روكار أحد رموز اليسار الفرنسي، ورئيس الوزراء في عهد الرئيس الراحل فرانسوا ميتران، في كتابه المعنون «نعم لتركيا»، بحيث يكون انضمامها إلى الاتحاد بمثابة مكافأة لها على دورها الاستراتيجي في إنجاز الأهداف الأوروبية في الشرق الأوسط والخليج العربي، وعلى رأسها تأمين سير حركة النفط من الخليج، ولعب دور حائط الصد ضد السياسات الإيرانية الراديكالية، وفي المقابل تمرير وتثبيت الرؤى الأوروبية في قضايا المنطقة، خصوصاً الصراع العربي - الإسرائيلي، والحرب على الإرهاب. ويعني ذلك أن اليسار الأوروبي - ولا بد أن اليمين أكثر منه عنصرية - يريد من تركيا أن تلعب دور الشرطي، ورجل الإطفاء، وربما طبيب الإسعاف لمدة عقد ونصف من الزمن، تثبت خلالها جدارتها وولائها لأوروبا، قبل أن تتعطف الأخيرة وتسمح لها بالوجود في خلفية الفناء الأوروبي. وهنا ربما تعيّن على تركيا الجديدة أن تستغني عن تلك العضوية بمحيطها الإسلامي، وأن تكتفي بدور «الجسر العظيم» بدلاً من «حارس الفناء»، وهو التصور الذي كان يميل إليه مهندس عملية الإحياء الإسلامي نجم الدين أربكان في برنامجه عن «النظام العادل» حينما أراد لتركيا استقلالاً صناعياً واقتصادياً عن الغرب، يوفر لها نوعاً من الاستقلال الحضاري، ويُمَكَّنها من تبوؤ مقعد القيادة في عالم الشرق الإسلامي الفسيح، بدلاً من اختناق أنفاسها في قاع الصندوق الأوروبي الضيق. ذلك أن دور الجسر الحضاري يدفع بها من قاع الصندوق إلى سطح التاريخ، ويمكنها من التحكم في مسارات الحركة وإن لم تملك عربة في القطار، كما يضفي عليها قدراً من المكانة ربما فاقت حصتها في المكان. * كاتب مصري