نصوص الرحيل هل يتواطأ الحزانى ضد أنفسهم حين يجترّون أشجانهم، وصبرنا للأسف، ويدفعوننا إلى الاعتقاد بأنهم لن يُشفوا منها؟ قد تكون الذكريات المكرورة طريقاً إلى النسيان، أو عملاً فنياً يؤكد للراحلين بقاءهم معنا، لكن لماذا نحس بالخيانة، والخيبة، حين يجد الحزانى حياة أخرى سريعاً بعد حِداد يبدو لا نهائياً؟ يضع ميشال فيبر حذاءً أحمر في الصف الأول في بعض الأحداث الأدبية التي يشترك فيها. كان الحذاء المفضّل الأخير لزوجته إيفا يورين التي قضت بالسرطان بعد ستة وعشرين عاماً من الزواج. لم يتسنَّ لها أن تنتعله كثيرأً، وشاءه رمزاً للمرأة الفائقة الحيوية التي قاومت مرضاً عرفته قاتلاً. حضر الحذاء في أمسية لندن التي أطلق فيها «كتاب الأشياء الغريبة الجديدة» إثر رحيلها. طالت كتابته عقداً، وتناول رجل دين يهجر أسرته وأرضاً مثقلة بالهموم، ويقصد كوكباً بعيداً يتلهف سكانه لكلمة الله. أصرّت إيفا على أن يكمل كتابته حين أملى المرض حياة مختلفة، أليمة سجّل الكاتب الهولندي تفاصيلها في قصائد «عكس الموت: قصة حب» الصادرة أخيراً عن «كاننغيت». يراقب فيبر في حساسية صريحة وقاتمة التغير المرعب لجسد امرأته الذي انتشرت عليه حبوب صغيرة فبات خمسة وسبعين كيلوغراماً من اللحم الفاسد البشع. يدرك أن هناك من لا يودّ الذهاب إلى حيث تأخذه القصائد، لكن الضجرين من المقاربة العاطفية، المتكتمة للمرض قد يرغبون في صوت بديل. كانت إيفا قارئته وناقدته الأولى، وطلب دائماً نصيحتها التي غابت عن «عكس الموت». كان عمله الطرف الثالث في زواجهما. زوّدته بشخصيات لرواية «شريك الشجاعة»، طلبت نهاية أكثر تفاؤلاً ل «كتاب الأشياء الغريبة الجديدة» وساعدته في العثور على مزاج كتبه وعُقدها. كان يمكن أن يكتب ما يعجب النقاد وحدهم، لكن إيفا حرّضته على أن يخاطب القارئ العادي الذي انتظر «كتاب الأشياء الغريبة الجديدة» طويلاً. كانت زوجته الأولى مثلية، وتأثر بوسطها فكتب روايات نسوية متشددة معادية للرجال جعلته «أنثى شرفية». حين التقى إيفا في ملبورن في 1987 طلبت قراءة قصصه ونقدتها من دون اهتمام ب «الأنا الهش للكاتب». لكن أناه لم يكن هشاً، وفكر أنها المرأة التي يريدها. كتب باليد واستخدم الدهان المنزلي للشطب، وأقنعت إيفا دار فيبر بنشر مخطوطاته. أتى كلاهما من زواج فاشل وخلفية دينية صارمة. تمردت على والديها المنتميين الى «شهود يهوه»، وكان والداه إنجيليين هاجرا إلى أستراليا في 1967 حين كان في السابعة، وتركا أخوته في هولندا. تعاون والده مع النازيين، وكادت والدته تقضي جوعاً في شتاء 1945، وظلّل الخوف والذنب أيام البيت. ضاعت طفولته في «ثقب الغفران الأسود» لذا صنع عوالم جديدة في أدبه. اقترحت إيفا الهجرة إلى جبال سكوتلندا، وعاشا في مزرعة تدور فيها «تحت الجلد». غيّرت «البتلة القرمزية والبيضاء» حياتهما حين تحدّت الذائقة السائدة ودخلت لائحة الأكثر مبيعاً. حولتها هيئة التلفزيون البريطاني مسلسلاً، وساهمت في دفع نفقات إيفا الطبية. أفقدته جولة في الولاياتالمتحدة الأميركية حول الرواية توازنه و «الطبقات الضرورية من الجلد». كان عانى من الكآبة والهشاشة النفسية، وخشي أن يتشرّد أو يعيش في خيمة على حدود المدن كالأميركيين الأصليين. أراد في «تحت الجلد» الذي تحوّل فيلماً الابتعاد عن المخلوق الفضائي الذي كانه مراهقاً، لكنه أحس أنه افتقر إلى ما يجعله إنساناً تاماً. أهداه ككل كتبه إلى إيفا التي أعادته إلى الأرض، وأشعرته حين مرضت بالعجز والذنب والصِغر فضرب رأسه بالحائط. كانت صخرته، ولم يستطع أن يكون صخرتها، لكن اعتمادها عليه أنقذه من اكتئابه. فقدَ ترف التساؤل كل صباح ما إذا كان قادراً على النهوض ومواجهة الكون، ولئن حزن لوفاتها لم يكتئب ثانية. تغيّرت الكيمياء في جسده، يظن، وفتحت دروباً جديدة في دماغه. بدأ «كتاب الأشياء الغريبة الجديدة» بعد حربي أفغانستان والعراق حين سئم حماقة البشر التي لا تقهر، وأراد قصة لا يوجدون فيها. خطرت له فكرة رجل وامرأة تفصلهما سنوات ضوئية، فجعل بيتر يطير إلى كوكب الواحة ليبشّر سكانه، وترك إيفا على الأرض تهتم بتفاصيلها الحقيرة. كان فيبر على كوكب الفن، وحين مرضت زوجته تغيرت القصة لتتناول الخسارة وعجيبة الجسد وهشاشته. مع اتخاذ الرواية شكلها، ساعدته إيفا، الكاتبة الرسامة والمصوّرة، بنقدها وهي تعرف أن جسدها عاجز عن إصلاح نفسه كالحال في كوكب الواحة. يكمل اليوم قصصها وهو يحاول الإخلاص لروحها، ويكتب سيرتها مزودة بصورها المتقاطعة مع تخطيطات جسدها المريض. خشيت إيفا أن يحدّق ثانية في ثقب حزنه القاتم بعد موتها، وأرادت أن يجد الحب مجدداً. عثر عليه بعد عامين من رحيلها لدى الكاتبة لويزا يونغ التي تكتب هي أيضاً سيرة خطيبها الراحل. بعد البيت الأصفر تكتب سوزان فلتشر عن هيئة جانبية لامرأة عادية رسمها فنسنت فان غوخ في مصح سان بول دو موزول. كان الفنان الشاب استضاف بول غوغان في بيته الأصفر في آرل وتشاجر معه وقطع أذنه. عاودته نوبات الجنون بعد استراحة، لكنه رسم بغزارة وأنتج بعض أفضل أعماله وأكثرها شعبية. كانت هيئة جان ترابوك، زوجة مدير المستشفى، بينها وكتب لشقيقه ثيو عن لوحة المرأة التي «ذبل جمالها، المسكينة»، والتي اعتُقد حتى التسعينات أنها ضاعت. في الكوخ الصامت في روايتها السادسة «دعني أخبرك عن رجل أعرفه» الصادرة عن «فيراغو» تتجاهل سوزان فلتشر الفنان الذي بقي يعمل ويملك قدراً من الحرية لتركز على المرأة التي تحولت سجينة حرصاً على سلامتها. يمنع مدير المصح شارل ترابوك زوجته من زيارته ويُبقي نوافذ الكوخ الأبيض مغلقة. تلزم البيت بعدما شبّ ابناها وتركاه، وتقدم القهوة لزوجها في الفنجان البنّي. يقرأ الصحيفة وهو يتناول العشاء في الكوخ الصامت، ثم ينسحب كل منهما إلى غرفته. تتكرر حياة جان المغلقة حتى يصل الفنان الشاب، أول مريض جديد منذ أعوام. تسبقه أقاويل عن تعاطيه الأبسنت وزيارته دور البغاء وتجواله عارياً في ساحة لامارتين. تجد جان نفسها أمام نقيضها الذي جلب معه شهية خاماً وجوعاً متوحشاً للحياة. تتحدى أوامر زوجها، وتبحث عن «الثعلب الأحمر» لتدخلها لوحاته وأحاديثه عالماً نسيته. تستعيد الفتاة الجريئة التي كانتها والأحلام التي وضعتها جانباً، وتتذكر سعادتها وحبها لشارل الذي تآكل خشية أن يثقل أحدهما على الآخر بأشجانه. الحب والقبيلة في «قبيلة: عن العودة والانتماء» الصادر عن «فورث إستيت» يقول الكاتب والمراسل الحربي سيباستيان يونغر إن الإصابات الكثيرة بالصدمة بين الجنود الأميركيين العائدين من الجبهات تتعلّق بخبرتهم قبل ذهابهم إليها والصعوبة التي يجدونها في الفصل بين متعة الحرب وأضرارها. يستعين بأبحاث ربطت بين الصدمة والجنود الذين تعرضوا للإساءة أطفالاً، أو قدموا من عائلات مفككة أو عانوا من وفاة عزيز. ويرى أن مغادرة وحدة قتالية متماسكة والعودة إلى مجتمع مدني مفكك وفردي للغاية يدمّر الروح. قضت المجتمعات الميسورة على حس الجماعة وقاسى كثر فيها من الاكتئاب والوحدة المزمنة. لا يضمن المال السعادة، والحب أساسي للصحة والرضى. اتُهِم يونغر بالحنين إلى عالم لم يوجد أصلاً. نشأ في ضاحية أميركية مرتاحة لم يحدث شيء فيها. رغب في فتوته في حدوث إعصار مثلاً يوحّد الجميع في صراعهم للبقاء، ويجعلهم يشعرون أنهم قبيلة. لم يشتهِ الدمار والفوضى، يوضح، بل التضامن. يعتقد مخطئاً بأن الفقراء المضطرين إلى مشاركة وقتهم ومواردهم يجعلون جماعاتهم أكثر تماسكاً. يستشهد بالأميركيين الأصليين الذين يجدون الولاء والانتماء في مجتمعاتهم القبلية، ويجذبون الأميركيين الآخرين إليها. يذكر امرأة بيضاء خدمت أسرة ثرية في مزرعة، وهربت لتعيش مع هنود الأونيدا فوجدت نفسها حرة ومساوية لسائر النساء. لكن تمجيد ثقافة الهنود الحمر يخفي المرض والعنف السائد وكون النساء دون الرجال فيها. يقول يونغر إن كثراً يشعرون بأنهم أفضل حالاً في الحرب منهم في السلم، ويتجاهلون القتلى والمشوهين والحزانى والمصدومين. يعطي الغارات الألمانية الكثيفة على لندن في 1940-4119 مثلاً، ويتجاهل المشكلات العديدة التي استدعت تدخل الشرطة في الملاجئ. ينطلق من هاجس التضامن لدى التعرض للعدوان، ويتساءل كيف نصبح راشدين في مجتمع لا يطلب التضحية والشجاعة منا.